الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 06:01

الحارَة – أَدَبٌ تسجيلِيّ

البقيعة.. قَرْيَةٌ فِلَسْطينِيَّةٌ بامْتِياز/ بقلم: حسين مهنّا

حسين مهنّا
نُشر: 02/09/20 15:25,  حُتلن: 16:39

ما كانَ يُمكنُ أَنْ تَجدَ قَريةً من قُرانا الفِلَسْطينِيّةِ بِدونِ ساحَةٍ تَجمَعُ سُكّانَها كَأُسْرَةٍ واحِدة.. وما كَتَبْتُ عن قريتي الجميلةِ- وقد كتبتُ الكثيرَ- يَظَلُّ مَنْقوصًا إِن لم أَكتبْ عن ساحتِها المعروفةِ عندنا بِ ( الحارة ).. سألتُ صديقي وقتَ ضيقي ( لسان العرب ) إذا كانت التَّسميةُ فصيحةً، قالَ: الحارةُ كُلُّ مَحَلَّةٍ دَنَتْ مَنازِلُهم، فَهُم أَهلُ حارةٍ. واستَنْجَدْتُ بالمُنْجِدِ فَقالَ مُؤَكِّدًا: الحارةُ كلُّ مكانٍ دَنَتْ فيهِ المنازلُ بعضُها من بعض.. وقالَ: الحارةُ المُستَدارُ من الفضاء.. فجاءَت التَّسميةُ تحملُ المَعنَيَين.. فهي مستديرةُ الشَّكلِ تقريبًا، والبيوتُ حولَها مُتراصًّة.. تتوسَّطُها عينُ ماءٍ هي في فصلِ الشتاءِ جدولٌ هادرٌ.. وأَمّا في باقي فصولِ السّنة فلا هي بالغزيرةِ ولا هي بالشّحيحةِ.. هذهِ العينُ زادتْها جمالًا وبهجةً وكانَ لها الدّورُ الأَكبرُ في جعْلِها قلبَ القريةِ النّابض .. هذهِ العينُ جَعلَتْ حياةَ الفلّاحينَ في بلدي أَقَلَّ شَقاءً، وأَكْثَرَ هَناءً، فقد أَروَتْهُم وأَروَتْ دَوابَّهم وبَساتينَهُم، وغَسَلَتْ أَبدانَهُم وخُضَرِهَم كالفُجْلِ واللِّفْتِ وكَلِّ ما يُقْلَعُ مِنَ الأَرضِ؛ وغَسَلَتِ البَقْلَ على أَنواعِهِ كالعِلْتِ ( الهندَباء ) والخُبّازي والشُّمْرَة ِ(الشّومَرِ) والسِّلقِ والزَّعْتَرِ والعَكّوبِ وكُلِّ ما يُؤْتى بِهِ مِنَ الحقلِ.. ولا أَنْسى أُمَّهاتِنا وهُنَّ يُصَوِّلْنَ القمحَ تَحْضيرًا لِغَلْيِهِ في الخَلاقين لِيِصيرَ بُرْغُلًا، والبُرغُلُ عِنْدَ الفَلّاحينَ مساميرُ الرُّكَبِ؛ هذا إلى جانِبِ الزَّيتِ والزَّيتون.. وغسْلُ البُسُطِ والحُصُرِ ما كانَ أَعْقَدَهُ لولا وجودُ هذهِ العينِ المُبارَكَة. كُلُّ هذا كانَ يَتِمُّ والمُشَرِّقُ مُشَرِّقٌ والمُغَرِّبُ مُغَرِّبٌ، والشُّيوخُ يجلسونَ تحتَ التّوتَةِ، ومِنْهُمْ مَنْ جلسَ عِنْدَ الماءِ مُبَرِّدًا قدَميهِ.. أَمّا الأَولادُ- كعادَتِهم- فَتراهُم يَتَهارَشونَ ويَتَقافَزونَ كالدُّيوكِ حينًا وحينًا يتَراشَقونَ بِالماءِ غيرَ آبِهينَ لِأَحَد.
2
يقولُ العارفونَ إِنَّ أوّلَ مَن سكنَ القريةَ هم المسيحيّون.. والدّليلُ أَنَّ البيوتَ حولَ عين الماءِ بغالبيَّتِها لمسيحيّينَ؛ وبَيِّنَتُهم على ذَلكَ أَنَّ الّذي يأتي ليبني بيتًا لا يبنيهِ بعيدًا عن الماء.. منطِقٌ سليم.. وهذا يُبطلُ ادِّعاءَ اليهود بأنّهم هم أَوّلُ من سكنَ القريةَ.. وبعد المسيحيّين جاءَ الدّروزُ ثمُّ اليهود.. أَمّا المسلمونَ فقد لَجَؤُوا الى القريةِ بعد دمار سُحماتا على يدي الجيش الإسرائيلي سنةَ أَلفٍ وتسعِ مئَةٍ وثماني وأَربعين.. يُستَثنى من ذلكَ بيتُ المرحومِ صالحِ القاضي الّذي جاءَ الى البقيعةِ من الكابري قبلَ النّكبةِ، وهو والدُ المرحومِ كامل القاضي الّذي كان رئيسًا للبقيعةِ ولسحماتا ولترشيحا، والّذي كان له شأْنٌ في تطويرِ البقيعةِ خاصَّة.
3
نَزَحَ المرحومُ كامل القاضي مع عائلتِهِ الى لبنان تحسُّبًا من الجيشِ الإسرائيليِّ الّذي كانَ يبحثُ عن زعاماتِ فِلَسطين لاعتقالهم أَو لِإِعدامهِم مَيدانِيًّا؛ نَزَحَ تاركًا وراءَهُ غيرَ محبّةِ الناسِ، مُنجزاتٍ كثيرةً على رأسِها تنظيمُ الحارَةِ بِرَصْفِها بالحجارةِ، ورَصْفِ الطُّرُقاتِ الخَمْسَةِ الواصِلَةِ إِليها من جِهاتِها الأَربَعِ اتِّقاءً من وُحولِ الشِّتاءِ.. وماءُ العين، فقد حُصَر في سدٍّ غيرِ مَكْشوفٍ من الباطونِ - معَ صُعوبَةِ الحصولِ عَلَيهِ في ذلكَ الوقتِ!- وتُرِكَتْ فُتحةٌ تخرجُ منها ماسورةٌ ذاتُ فُتحةٍ واسعةٍ تنقلُ الماءَ الصّافي من رأْس النَبعِ وتمتدُّ من جهةِ الحارةِ الشّماليّةِ حيثُ منبعُ الماءِ لِتَصِلَ جنوبَها ولتصبَّ في حوضٍ واسعٍ؛ أَمّا ماءُ الماسورةِ فهو للاستهلاكِ البيتيّ، وأمّا ماءُ الحوضِ فكانَ يعودُ لِيَجْتَمِعَ معَ الماءِ الفائِضِ الّذي يخرجُ بجانبِ الماسورةِ لِيجري بين جدارينِ مُتوازيينِ بارتفاعِ نصفِ قامةِ الإِنسان والمسافةُ بينهما قد تصلُ الى مترٍ وزيادة. هذا المشروعُ الّذي أُنشِئَ على مقاس المياه الهادرة في فصل الشّتاءِ عُرفَ عند أهلِ القرية بِ ( المعدّيّة ).. هذه المعدّيّةُ كانت توصِلُ الماءَ جنوبًا ثُمَّ تنعطفُ شَرقًا، ومن هناكَ يُواصلُ الماءُ جريانَهُ في قناةٍ مكشوفةٍ، فإلى الوادي مُنحَدِرًا لِيُديرَ دواليبَ طاحونةٍ كانتْ تعملُ ما دامتِ المياهُ قادرةً على تحريكِ تلكَ الدَّواليب.. هذا الماءُ كان إكسيرَ الحياةِ للأشجارِ صَيفًا، ولِذا فقد كثُرتْ بساتينُ القريةِ وزَهَت بِخُضَرِها من بنادورةٍ وباذِنجانٍ وفُلفُلٍ وبامِيةٍ ولوبياء.. وبأشجارِها من رمّانٍ وتينٍ وتوتٍ ومِشمشٍ وخوخٍ ولوزٍ وجَوزٍ؛ أَمَّا الصَّبّارُ فَتَراهُ أَينَما نَظَرْتَ ... وأَمّا شجرُ الميسِ والبُطْمِ الشّامخُ وبالرّغمِ من أَنَّه شجرٌ غيرُ مثمرٍ فقد كانَ يُغرسُ لِتَجِدَ الدّوالي سَنَدًا تتّكئُ عليه، ولِيُسْتَفادَ من أَخْشابِها في تَرْميم سُطوحِ البيوتِ التُّرابِيَّة..
بين المعدّيّة والمساحةِ المُعدَّةِ لِتَجَمُّعِ البهائم ارتفعَ مَمْشىً بارتفاعِ جدارِها وبعرضِ متْرٍ شكّلَ فاصلًا بينها وبينَ حوض الماءِ الممتدِ بموازاتِها، ويستمدُّ ماءَهُ من الماسورةِ الكبيرةِ بواسطةِ ماسورةٍ صغيرةٍ تكفي لتجعَلَ الحوضَ طافحًا، والماءَ فيهِ صافيًا دائمًا كي لا يَأْسِنَ وذلكَ لِسَلامَةِ البَهائِم.
على هذا المَمْشى الفاصِلِ بين المعدّيّةِ وحوضِ البهائمِ سارَ الممثّلُ الأَمريكي كيرك دوغلاس نجمُ الستّينيّاتِ وصاحبُ الفيلم الشّهير (سبارتاكوس ) والّذي يحكي عن ثورةِ العبيدِ ضدّ أَباطرةِ روما وأَغنيائِها ( 71 – 73 ق.م ). كيرك دوغلاس هذا كان يهوديًّا صهيونيًّا يغضبُ إن وَجَدَ مَن يفوقُه صهيونيّةً؛ وكان قد زارَ البلادَ سنةَ ألفِ وتسعِ مئةٍ وخمسٍ وستّين من القرن الماضي، وزيارتُهُ للبقيعة كانت بدافعٍ صهيونيٍّ محض.
اعْتاشَ أَهلُنا على الزِّراعةِ آنذاكَ، ولذا فقد لعبت البهائمُ دورًا أَساسيًا في حياتهم .. كانت عونًا لهم في تنقّلِهم من البيتِ الى الحقلِ أو من القريةِ الى القرى المُجاورةِ، عدا عن الحِراثةِ الّتي هي عِمادُ الزِّراعةِ، وعدا عن دَرْسِ الحصيدِ على البيادرِ، فليسَ كثيرًا إذًا إِنْ أَعدُّوا لها ساحةً خاصّةً وحَوضَ ماءٍ لِتَنْعَمَ بشُربِها وحَرَكَتِها قبل انطلاقِها الى العملِ أو الى المراعي.. وقلّما خلا بيتٌ في القريةِ من حمارٍ أَو بقرةٍ أو أكثر.. أَمّا الخُيولُ بعددِها القليلِ، فقد رَعاها أصحابُها من ذوي النّفوذِ وطُلّابِ الزَّعامةِ لِلمُباهِاةِ.. وأَمّا الجِمالُ فقد كانت لا تزيدُ عن عددِ أَصابعِ اليدِ الواحِدَةِ؛ وعملُها كانَ مَقْصورًا على نقلِ الحصيدِ الى البيادرِ ، أو نقلِ الأحمالِ الثّقيلةِ الى البيوتِ البعيدةِ عن مدخلِ القريةِ حيثُ ينتَهي دورُ السَّيّارت -على قِلَّتِها- .. تَجَمُّعُ البهائمِ في السّاحةِ العامّةِ كانَ شيئًا مألوفًا عند الأهالي، ويقولونَ: قريةٌ بِدونِ بَهائِمَ قريةٌ عَرْجاء!
4
من مَعالمِ الحارةِ شجرةُ توتٍ.. السّماءُ بشمسِها وقمرِها ونُجومِها فقطْ تَعْرِفُ كمْ مَضَى عليها من السّنين.. عملاقةٌ بجذعِها وفروعِها، رقيقةٌ بأغصانِها، كريمةٌ بظلِّها، لا تُعطي ثمرًا حِرْصًا منها على نظافةِ ملابسِ الشّيوخِ الّذين يتجمَّعون يوميًّا تحتَها، فيرتفعُ منسوبُ المحبّةِ بينهم لِيُصْبِحَ مُتَوارَثًا جيلًا بَعدَ جيلٍ، ولِيُصْبِحَ التَّسامُحُ سَيِّدَ المَوقِفِ في حَلِّ مُشْكِلَةٍ هُنا، أَو فَضِّ خِلافٍ هُناك..
هذه التّوتةُ المُبارَكةُ سَمِعتْ في المِهرَجاناتِ الشَّعبيّةِ قصائدَ توفيق زيّاد وسميح القاسم ومحمود درويش وسالم جبران وسميح صبّاغ ونايف سليم وسلمان أَسعد فضّول وأَحْمد فَضّول ونخلة مخّول، وخِطاباتِ جمال موسى وبنيامين غونين وتمار جوجانسكي وماير فلنر وتشارلي بيطون وتوفيق طوبي وفيليتسيا لانغر وإميل حبيبي وعصام مخّول ومحمد نفّاع... فحَفِظَتْ قصائدَهم وخطاباتِهم وحَفَرَتْها على جِذعِها شاهدًا على أُناسٍ نَفَضُوا غبارَ الخوفِ عن أَكْتافِهم باكِرًا، وعَرَفُوا كيف َيُحافِظُونَ على ما تبقّى لهم من أَرضِ فِلَسطين بِحِفاظِهم على أَرضِ قَريَتِهِم، مُعَبِّرينَ عن ذلكَ بِغِنائِهم في أَعراسِهم لِلأَرضِ ولِلْحُرِّيَّةِ ولِلسّلام.. عَظَمَةُ هذهِ التّوتةِ أَكَّدَها محمود درويش في لقاءٍ عَرَضِيٍّ معه في رام الله.. قلتُ لهُ: أَنا من البقيعة. بالرّغم من طولِ غُربتِه وما مرَّ عليهِ من غرائبَ وعجائبَ في حَلِّهِ وترَحالِهِ تبسَّمَ وقالَ: كيف التّوتة! قلتُ: بخيرٍ.. تنتظرُ عودتَكَ مع العائدين.
شَأْنُ التّوتَةِ مع الصِّغارِ شأْنٌ آخرُ، كانوا يتسلّقونها ويتقافزونَ من فَرْعٍ لآخرَ كقرودٍ استفاقت من نومٍ ثَقيلٍ طويل.. كم كنتُ أَغبَطُهم، خاصَّةً حميد وقاسم وبسّام، على مهارتِهم في التَّسلُّقِ والقفزِ وأنا أخافُ تسلُّقَ الأشجارِ، حتّى الواطِئَةِ منها..
5
بعدَ ما مَرَّ عليَّ من السِّنين، لا زِلتُ أَذْكرُ حينَ كنتُ أَمرُّ في الحارةِ وأَرى والِدي الشّيخَ أَبا حسين فندي مهنّا شابًّا أَنيقًا مَزهُوًّا بِلِباسِهِ الدّينيِّ التَّوحيدِّيِّ يجلسُ في دُكّانِهِ يقرأُ أَكثرَ مِمّا يبيع.. هذا إِذا لم يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يُجالِسُهُ مِنَ الأَصْدِقاءِ.. وإلى جانِبِ دُكّانِ والِدي يرتَفِعُ بيتُ السِّيّدِ إبراهيم بِشُبّاكَيِهِ المُطِلَّينِ على الحارَةِ كَعَيني حارِسِ أَمين، وأَرى من خِلالِهِما السّيّدَ إبراهيم وأَصْدِقاءَهُ يَشْربونَ القَهْوةَ ويلعَبونَ الورَق.. قُبالَتَهُ أَرى دُكّانَ السَّيِّدِ رمزي الّذي لا يَدْخُلُهُ المُحافِظونَ منَ الدُّروزِ، لا لشيءٍ إِلّا لِأَنَّهُ يبيعُ البيرَةَ والنَّبيذ؛ والى جانِبِهِ أَرى دُكّانَ الشِّيخ حسين الّذي كانَ يَغضَبُ مِنَ الّتي تُساوِمُهُ بِسِعْرِ السِّلْعَةِ، وقَدْ يَطْرُدُها غَيرَ عامِلٍ لِغَضَبِها ولِغَضَبِ زَوجِها أَيَّ حِسابٍ؛ وعن يَمينِهِ تقَعُ مَنْجَرَةُ السَّيّدِ جبرائيل، النَّجّارِ الماهرِ في صُنْعِ خَزائِنِ العَرائِسِ المُتَوَّجَةِ؛ وبِجانِبِ بيتِ السَّيِّدِ جبرائيل يشَمَخُ بيتُ الأُستاذِ حنّا الصَّبّاغِ الّذي جَعَلَ منَ البُقَيعَةِ قَريَةً قارِئَة؛ وخلفَ التّوتَةِ يقعُ بيتُ السَّيّدِ صالح وزَوجَتِهِ المَشْهورَةِ بِأُمِّ الزّوزو والّتي كانتْ مُلِمَّةً الى حَدٍّ ما بِمِهْنَةِ التّمريضِ، فَكانتْ عَونًا لِصَبايا القَريةِ ونسائِها في حَلِّ مَشاكِلِهِنَّ، ومِنْ ثَمَّ حافِظَةَ أَسْرارِهِنَّ؛ وهناكَ دُكّانُ الشّيخ فارس صَانِعِ الكَعكَبانِ وهو من القَلائلِ الّذينَ يملِكونَ جِهازَ راديو في القريةِ؛ والسَّيد يوسف الّذي كانَ لا يُرى إلّا جالِسًا أَمامَ دُكّانِهِ حتى اعتَبَرَهُ البَعْضُ مَعْلَمًا من مَعالِمِ الحارةِ الثّابِتَة؛ والى الشَّرقِ قليلًا تَقَعُ دُكّانُ الشَّيخ صالحِ صَانِعِ كَراسى الحَلفاءِ الصَّغيرةِ والمُريحَةِ والّتي بِوفاتِهِ انقَرَضَتْ مَأْسوفًا عَلَيهِ وعَلَيها.. وهناكَ بيتُ الشَّيخ صالح- غير صَانِعِ الكراسي- المَعروفِ بِخِبْرَتِهِ في علاجِ البهائِم.. وبِجانِبِ بَيتِهِ مَعْصَرةُ زَيتونٍ تَنامُ مُعْظَمَ أَشْهُرِ السَّنَةِ وتَسْتيقِظُ بِوافِرِ نَشاطِها في موسِمِ قَطْفِ الزَّيتونِ ودَرْسِهِ.. بِجانِبِها يَقَعُ فُرنُ السَّيّد سلمان والّذي تَوقَّفَ عن العَمَلِ باكِرًا لِأَنَّ الكَثيراتِ من نساءِ القَريَةِ لَم يتَنازَلْنَ عن مواقِدِهِنِّ وعن خُبزِ الصّاج.. بِجانِبِ الفُرنِ تَقَعُ دُكَانُ السَّيِّدِ نايف لِلسِّكافَة، والسِّكافَةُ صَنْعَةٌ انقَرَضَتْ بِتَطَوُّرِ صِناعَةِ الأَحْذِيَة.. لِيَدِها تَقَعُ دُكّانُ السَّيدِ فارس- وهذا غيرُ صانعِ الكَعْكَبان –أَمْهرِ تُجّارِ البُقيعَةِ في كَسبِ وُدِّ الزَّبائنِ بِطُرُقِهِ الخاصَّةِ، والمُخادِعَةِ أَحيانًا.. من الجهةِ الشّمالِيّةِ يقعُ بيتُ الشّيخ صالح- وهذا غيرُ الاثنينِ السّابِقَين- والمُمَيَّزُ بِشَجَرَتَي تينٍ باسِقَتَين، وبِغُموضٍ غيرِ مُبَرَّرٍ يكْتَنِفُهُ؛ ويُحْكَى عَنْ الشّيخِ صالح هذا أَنَّهُ كانَ يَنْعَمُ بِقُوَّةٍ جَسَدِيَّةٍ عاليةٍ، وقد تَصَدّى لِثَورِ أَبي نايف المُزْدَهِي بِعُرْعُرَتِهِ ساعةَ هَيَجانٍ، فَأَمْسَكَهُ من قَرْنَيهِ ، وبَعْدَ كَرٍّ وفَرٍّ أَلقاهُ أَرضًا!.. ولا أَنْسى شُيوخَ القريَةِ يتظلَّلونَ بالتّوتةِ ويتحادثونَ ويَتَمازَحونَ أَو يُحَزِّرونَ بَعْضَهُم الحزازيرَ أَو يَلعبونَ (الدّاما ) وأَخَواتِها من أَلعابِ الرِّياضَةِ العَقْلِيِّة.. والصَّبايا يحملْنَ جِرارَهُنَّ على رُؤُوسِهِنَّ من غيرِ أَنْ يُثَبِّتْنَها بِأَيديهِنَّ، ويَسِرْنَ بِشُموخِ الزَّرافاتِ وقد زادَتْهُنَّ نَظَراتُ الشُّبّانِ ثَباتًا ونَشاطًا.. وأَرى الأَطفالَ يتراشَقونَ بالماءِ غَيرَ عابئِينَ بالمارَّةِ أَو السُّيّاحِ الَّذينَ قَلَّما تخلو القَريةُ منهم، وقلَّما تَنْجو بِأُناسِها ودوابِّها وبيوتِها من كاميراتِهم.. وأَكادُ أَسمعُ راديو الشَّيخِ فارس صانعِ الكعكَبانِ يَصدَحُ في دُكّانِهِ بِأَعلى ما أَعدَّهُ مُختَرِعُهُ من قُدْرةِ صوتٍ، خاصَّةً إِذا كانت المُغَنِّيةُ (صباح ) أَو ( نجاح سلام ) أَو (محمد سلمان ) أو (وديع الصّافي ) ...وإِذا حدثَ وخُفَّضَ الصَّوتُ لِسَبَبٍ ما، كانتْ تَرْتَفِعُ أَصواتُ الاحتجاجِ من كُلِّ اتجاهٍ تُنادي: ارفع الصَّوت يا شيخ فارس.. لا تحرِمْنا من هذهِ النِّعَم!!
حينَ كنتُ أَمرُّ فَأَرى الشَّيخَ الجليلَ والدَ الرَّفيق كمال حاجّ المرحوم ميخائيل موسى حاجّ يَجْلِسُ على حَجَرٍ اسطُوانيٍّ أَمامَ بيتِهِ كحارسٍ للتّوتَةِ ولِلعَينِ، وقلَّما كنتُ أَراهُ بِدونِ كتابٍ أَو بِدونِ جريدةٍ الإتِّحادِ الحيفاوِيَّةِ صوتِ العُمّال والفلّاحينَ ، أَقولُ بروحٍ مُطْمَئِنَّةٍ: قريَةٌ فيها قارئٌ، وفيها كتابٌ قَريَةٌ لا خوفَ عليها من عادياتِ الزّمان..!!
والآنَ...... وأَنا في الخامِسَةِ والسَّبعينَ، وبعدَ أَن شَوَّهوا لي حارَتي باسمِ التّطوير، أَذكُرُها فَأَراني طِفْلًا أَحِنُّ إِليها كَما يَحِنُّ طِفْلٌ الى حِضْنِ أُمِّهِ الدّفيءِ، ولكِنْ ما أَسْرَعَ ما تُعيدُني سَنَواتُ العُمْرِ إلى واقِعِي، ولا يَجولُ في بَالِي سِوى ما قالتْهُ الشّاعِرَةُ العَرَبِيَّةُ بَكّارةُ الهِلالِيَّةُ مُجيبَةً مُعاوِيَةَ حينَ قالَ لها- وكانت قد أَسَنَّتْ-: غَيَّرَكِ الدَّهْر! قالَتْ: كذلكَ هو ذو غِيَر.. مَن عاشَ كَبِر.. ومَنْ ماتَ قُبِر!..
أَجَلْ...! أَجَلْ...! لَقَدْ عاشوا وكَبِروا.. وماتوا وقُبِروا.. وأَصْبَحوا ذِكرى جَميلَةً نَذْكُرُها... وها نحنُ فَقَدْ غَيَّرَنا الدَّهْرُ.. وعَشْنا فَكَبِرْنا..! ولم يَبْقَ لنا سِوى المَوتِ والقَبْر! .. وَ...وَ.. ومَنْ سَوفَ يَأْتي ويَقولُ: حَقًّا لقد عاشوا وكَبِروا.. وماتوا وقُبِروا.. وأَصْبَحوا ذِكرى جَميلَةً نَذْكُرُها..

البقيعة / الجليل 8/8/2020

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com

مقالات متعلقة