الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 02:01

وقفة حول المرحلة المفصليَّة في تجربة العندليب-سيمون عيلوطي

سيمون عيلوطي
نُشر: 28/02/21 10:35

شكَّلت أغنية "وانا كل ما قول التُّوبة"،1965، كلمات عبد الرحمن الأبنودي، ألحان بليغ حمدي، غناء عبد الحليم حافظ، خروجًا عن النَّمط الغنائي الذي عُرِفَ به العندليب، وهو النَّمط الرومانسيّ الذي سار عليه منذ الأغنية الأولى التي قدَّمها للجُّمهور، وهي "صافيني مرة" ألحان محمد الموجي، في العام 1955. أميل إلى الاعتقاد مؤقَّتًا، أنَّ هذه الأغنية "صافيني مرَّه"، جاءت تعبيرًا عن تلك المرحلة الواقعة بين الخمسينيَّات والستينيَّات من القرن الماضي، حيث بدأ الفن في مصر وفي الوطن العربيّ عمومًا، في هذه المرحلة، يخرج من عباءة الكلاسيكيَّة، ويتَّجه نحو الرومانسيَّة في فنِّ الغناء، والواقعيَّة في الأدب. وقد مثَّل عبد الحليم حافظ هذه المرحلة بصدقٍ فنيٍّ، مقدِّمًا العديد من أغنيات هذا اللون الرومانسيّ حتى عام 1965، وهو العام المفصليّ الذي شكَّل مرحلة جديدة في مسيرة العندليب، حيث توجَّه نحو الغناء الشعبيّ-الواقعيّ، والحقيقة أنَّ هذا التوجُّه لم يأتِ نتيجة لتطوُّر رؤيته الفنيَّة، أو الأيديولوجيَّة، إنَّما الذي دعاه إلى أن يطرق باب الأغنية الشعبيَّة، هو النَّجاح الكبير الذي حقَّقه المطرب محمَّد رشدي في أغانيه الشعبيَّة، من كلمات الشَّاعر عبد الرحمن الأبنودي، وألحان الموسيقار بليغ حمدي، خاصة في أغنيتي "عدويَّة"، و "تحت الشجر يا وهيبة". 

العندليب خاف على عرشه أن يهتز من هذا التيًّار الغنائيّ، الشعبيّ، ممثَّلًا بمحمَّد رشدي، فأراد أن يتعاون مع الأبنودي بصفته صاحب الكلمات الشعبيَّة التي يغنيها رشدي، والطّريف أنَّ التَّعاون بينهما تَمَّ بطريقة مثيرة، عجيبة.
يروي الأبنودي لأحدى الصُّحف: "أنَّه عندما كان يجلس بصحبة محمَّد رشدي، والموسيقار بليغ حمدي، فجأة وجد أمامه إثنين يرتديان بذلتين ونظَّارات سوداء ضخمة، قال أحدهما بنبرة حادَّة: "حضرتك الأستاذ الأبنودي؟ من فضلك عايزينك معانا شويَّة"، "وظنَّ الشَّاعر أنَّه معتقل، فذهب في سيَّارة، أقلَّته إلى إحدى العمارات بحي الزَّمالك في القاهرة، صعد إلى الشَّقة فوجد أمامه العندليب الأسمر، عبد الحليم حافظ".
"طلب العندليب يومها من الأبنودي أن يكتب له أغنية، وقال: أنا عايز أغنِّي باللغة بتاعتك دي عشان عاجباني، بس أنا مقدرش أقول "المسامير والمزامير" زي رشدي، يقصد مقطع: "في أيديا المسامير/ وفي قلبي المزامير/ والدِّنيا غرَّبتني/ وأنا الشَّب الأمير". من أغنية عدويَّة".
"ردَّ الأبنودي: هنعمل أغنية بس بشرط مع بليغ، وكان بليغ وقتها على خلاف مع حليم ونجح الشَّاعر في جمعهما مرة أخرى".
افتتح حليم مرحلته الشعبيَّة الجديدة بالأغنية التي كلَّف الأبنودي بكتابتها له، وهي: "وانا كل ما قول التُّوبة"، ألحان بليغ حمدي، ثمَّ تابع هذه المرحلة بعدد آخر من أغنيات هذا الطَّابع، توزَّعت كتابة كلماتها، على عدَّة شعراء. أمَّا ألحانها، فجميعها كانت من نصيب بليغ حمدي.
"على الرَّغم من أن الأبنودي كتب هذه الأغنية خصيصًا لحليم، إلا أنه حين سمع الأغنية أوَّل مرَّة استشاط غضبًا بسبب مقدمة الأغنية، بل وصل الأمر إلى أنه تبرَّأ منها ومن موسيقاها، وقال إنّها تذكره بالموسيقى الخاصَّة بالسيرك والملاهي الرَّخيصة في العاصمة الفرنسيَّة، باريس". هكذا ادَّعى، ولكن هناك مصادر أخرى كشفت أنَّ هذه الأغنية "وانا كل ما قول التُّوبة"، حقَّقت كل هذا النَّجاح بفضل الأسلوب اللحنيّ الذي طوَّره بليغ عن لحنها الشَّعبيّ، بدليل أنَّ هذه الأغنية لم يحالفها النَّجاح المطلوب حين غنَّتها ليلى مراد بنسختها التَّقليديَّة في فترة سابقة، بل بقيَت رهينة فيلم "سيدة القطار" الذي ضمَّ تلك الأغنية، من دون أن تقوى على الخروج منه لمواجهة الجمهور بالأدوات الفنيَّة التقليديَّة البسيطة التي اعتمدتها، رغم شعبيَّة ليلى مراد، وتميّزها في الغناء. بينما اللحن الذي طوَّره بليغ عن ذلك اللحن الخام، مستخدمًا فيه آلات النَّخ الغربيَّة، إنَّما نفخ باللحن روح الحياة العصريَّة المنغمسة بروح التُّراث، وأصالته، فاستحقَّ الانتشار، ما جعل الأبنودي يُغيرَّ رأيه في موسيقى الأغنية، فامتدحها، وكانت هذه الأغنية أيضًا بداية مشجِّعة لحليم، نحو انطلاقته الجديدة على طريق الأغاني الشعبيَّة، حيث رافقه بليغ حمدي في هذه الانطلاقة، واضعًا له العديد من ألحان الأغاني الشعبيَّة، منها: "سواح"، "موعود"، "زي الهوا"، "على حسب وداد قلبي"، "أي دمعة حزن لا"، "مدَّاح القمر"، وغيرها.
يذكر أنَّ اليسار المصريّ كان قد وجَّه للأبنودي انتقادًا شديد اللهجة على تعاونه مع حليم في أغنية "وانا كل ما قول التُّوبة"، باعتباره مطرب الطَّبقة البرجوازيَّة، في إشارة منهم إلى ذلك الموقف الذي أعرب فيه عن استعداده لأن يغنِّي للسادات، في حين أنَّ محمَّد رشدي انحاز إلى الغناء الشعبيّ بكل جوارحه، وبالتّالي فهو مطرب الشَّعب بلا منازع. الأبنودي حسم النِّقاش في هذه المسألة قائلًا: دعونا نكسب العندليب، مثلما كسبنا من قبله محمَّد رشدي.
الصَّحيح أنَّ المكسب الحقيقي كان لصالح الأغنية المصريَّة، والعربيَّة دون سواها.
(يتبع)
 

مقالات متعلقة