في قرارها الاسبوع الفائت بردّ الالتماسات التي طالبت بإلغاء تشريع قانون الاساس القومية، قامت المحكمة العليا الاسرائيلية بدورها المنوط بها بنيويا ومعياريًا ضمن المنظومة الاسرائيلية والمشروع الصهيوني بالمفهوم الاوسع. عليه فإنها لم تشرعن ما هي جزء منه، الا اذا اعتقدنا بأنها خارجه او انها حيادية او انها عادلة، وفي الحقيقة لسنا هناك، وهذا ما تعكسه المواقف ولكن بالاساس تؤكده التجربة مع الجهاز القضائي الاسرائيلي.
هناك استعجال في انتقاء مفردات الخطاب السياسي والاعلامي في الداخل، فعندما نقول ان المحكمة العليا تشرعن العنصرية البنيوية فإننا نخرجها من منظومتها ونعفيها من كونها متهمة وليست مرجعا معيارياً في هذا الصدد. كما أن مقولة الشرعنة تولد الوهم بانه بمستطاع المحكمة ان تكون خلاف ذلك. وتدلّ التجربة التاريخية وبشكل منهجي بأن محكمة العدل العليا تكاد تكون كما اسمها، في كل شأن يقع خارج الحق الفلسطيني، والامثلة كثيرة للغاية منذ سبعة عقود – لمّ الشمل، أعادة لاجيء، الطعن في قانونية المستوطنات او المصادرات او هدم البيوت، بل الأخطر أنه وفي حال انقذت بيتا من الهدم بسبب إجرائي اسرائيلي وليس حق المواطن العربي الفلسطيني في الارض والمسكن، فإنها تكون قد قوننت جوهر الهدم كسياسة ، ولو نظرنا اليها بالتراكم لوجدنا في ثناياها استراتيجية الطرد الجماعي والتطهير العرقي بالوتيرة التي تتيح تنفيذهما وكي لا تثير هبّة الناس.
من الجدير ان نلتفت الى البتّ القضائي في مسألة التطهير العرقي في الشيخ جراح في القدس، حيث كشفت انتفاضة الجماهير الشعبية وما رافقها من فعل سياسي فلسطيني وعالمي، بأن البتّ القضائي فيها مرهون بتوازن القوى بين اصحاب الحق المباشرين وغير المباشرين، وبين الاحتلال ودولته بما فيه محكمته. فالقضاء ليس حياديا ولا يصبو ليكون كذلك، وبالاخص ليس طرفا ثالثا بين اسرائيل والشعب الفلسطيني. بل ان القضاء الاسرائيلي لا يُشرعن ما هو جوء منه.
وعليه فحين تلتمس عدالة او لجنة المتابعة الى المحكمة العليا الاسرائيلية، فإن ذلك ليس بالضرورة من اجل نيل الحقّ من هذه المؤسسة، بل لرفع خطابنا والدفاع عن حقوقنا، وقد يكون من باب "حاصر حصارك". فالخطاب الذي تطرحه هتان المؤسستان الجديرتان هو خطاب تمكيني، ومحاججاتهما تفوق أهمية الاجراء مثار النقاش. اي هل يجب ان نلتمس للعليا بشأن قانون القومية ام لا، وهو ما سأتطرق اليه لاحقا.
إن مصدر الشرعية بالنسبة للفلسطينيين مواطني الدولة هو بقاؤهم في وطنهم وهو ما سلبه المشروع الصهيوني من شعبهم ووطنهم، وهو الحق الفلسطيني بمفهومه الواسع بالعودة والتحرير وتقرير المصير والذي يحظى بالشرعية الدولية. وفي المقابل فإن العنصرية الاسرائيلية لا تعود بتاتا الى قانون القومية، بل أن قانون القومية هو نتاجها. فالواقع اكثر عنصرية من قانون القومية، والقانون لم يعزز العنصرية البنيوية بل كشفها بشكل جليّ، وهذا يعيدني الى مؤتمر ديربان (جنوب افريقيا) الدولي ضد العنصرية عام 2001، حين نجحنا في المؤسسات الاهلية الفلسطينية والعربية والدولية في هزيمة اسرائيل ودمغها بالعنصرية، بالكشف عن مواطن العنصرية في قوانينها وبنيتها ومؤسساتها القومية، بالاشارة الى 23 قانون تمييزي وعنصري. بينما جاء قانون القومية ليكشف المكشوف جوهريا والمستتر بين النصوص. وبأن الممارسات الجوهرية للدولة أكثر سطوة وعمقا استعماريا من قانون القومية. وبهذا المفهوم فإن قانون القومية الذي يجمع عدة قوانين معا، هو بالاساس نتاج العنصرية الاسرائيلية التي للاستعارة اطلق عليها العنصرية الغبية والتي من الاسهل التعامل معها من العنصرية الذكية. فلو كان قيادي على شاكلة شمعون بيرس مثلا في سدة الحكم، لكان من الصعب ان يسعى لتشريع مثل هذا القانون، بل كان سيتحدث عن التعايش والسلام، ليتيح للدولة ان تمارس كل عنصريتها وعدوانيتها وسطوتها بكل حرية ودونما لفت النظر الشعبي لذلك. فالقانون ورغم فظاظته يبقى قاصرا عن الاحاطة بمجمل اشكال العنصرية الاستعمارية الممارسة فعليا منذ العام 1948.
ومع هذا، هل نتوجه الى المحكمة العليا الاسرائيلية؟
مثل هذا الموضوع كان جديرا بالنقاش الشعبي قبل البتّ به، لكن ذلك لا يقلل من وجاهة الموقف بالالتماس للعليا. وكما ذكرت آنفا بصدد موقع المحكمة في المنظومة الاسرائيلية وكونها تعمل بقوة سطوة الدولة وقانونها، فإنها في مثل هكذا حالات تسعى جوهريا للنظر في مصداقية الاجراء، بينما مشكلتنا هي مع جوهر الجوهر بغض النظر عن الاجراء. وهذا تناقض اساسي. ومع هذا وكما تعلمت من مسيرة مركز عدالة، بأن المؤسسة في كثير من الاحيان تلتمس للعليا الاسرائيلة بدرية مسبقة بأن الاخيرة سوف ترد الالتماس. وبهذا المفهوم تكون المحكمة العليا حلبة لادارة صراع بين روايتين وخطابين ومنطقين. وفي هذه المواجهة يوجد تمكين ذاتي داخلي للجماهير العربية الفلسطينية وخطابها الحقوقي. ولا يوجد لنا الى اي عنوان قائي نسعى فيه للدفاع عن حقوقنا سوى القضاء الاسرائيلي، وكل ما نحققه فيه هو بفضل ادائنا وليس بفضل عدالتهم، فلا اوهام في ذلك. كما انه يوجد بعد اخر وهو ان اي اجراء دولي لا يجري النظر فيه دون استنفاد الوسائل الاجرائية المحلية. لكن لو نظرنا الى خطابنا الحقوق كجمهير ومؤسسات، لرأينا التراكم الكبير في تعزيز بنيته وقوته ووضوحه، وهذا لا يأتي نظريا" بل بخوض المواجهة على ارض الواقع القضائي الاسرائيلي والواقع السياسي والشعبي. فلا بدائل ولا خيارات سوى خوض هذا التحدي التي من شأنه التمكيني ان يعزز الطريق لنيل حقوقنا الجماعية، وأن يخلق الفرص لوضعية كفاحية أفضل، والطريق طويل. اي التعامل مع قانون القومية ومع قرار العليا بكونهما فرصة لنضال جماهير شعبنا.
كلمة عن خطاب الفصل العنصري (الابرتهايد)
بدايةً، لا بأس بالمقارنة بين اسرائيل والابرتهايد وكذلك مع العديد من انظمة عدوانية وعنصرية واستعمارية، لكن المشكلة الجوهرية في فلسطين كلها هي مسألة واقع استعماري ويقابله تحرر وطني. حتى وان كان القانون الدولي يتعامل مع الابرتهايد بما يعادل تعامله مع الاستعمار، الا أن الابرتهايد كصيغة لا يتسع لمجمل جوانب المسألة الفلسطينية، فاللاجئين والمهجرين مثلا، وكذلك الاحتلال بكل ممارساته وبالاساس النكبة ونهب املاك الشعب الفردية والعامة، هي ليست ابرتهايد، بل هي استعمار استيطاني. كما ان الثقافة الوطنية الفلسطينية تحدثت في السابق عن "الصهيونية عنصرية" وانتزعت الثورة الفلسطينية في العام 1975 ومعها قوى التحرر في العالم وبتأييد 72 دولة قرار الامم المتحدة بدمغ الصهيونية بالعنصرية والمعروف بالقرار 3379. وهو القرار الذي جرى إلغاؤه عام 1991 "بفضل" المباحثات التي أفضت الى اتفاقيات اوسلو. لقد تعلم نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا الكثير من حليفته اسرائيل. في المقابل كانت علاقات التحالف الاستراتيجي والتعاون استثنائية ما بين م ت ف بقيادة ياسر عرفات والمؤتمر الوطني الافريقي بقيادة نلسون مانديلا. إن مفردات الخطاب التحرري الفلسطيني أكثر ملاءمة لقضية فلسطين واكثر تعبيرا عن جوهرها وعن مجمل مركباتها. بل أن حصر الخطاب بالابرتهايد فيه تخفيف من جوهر المشروع الصهيوني سواء بالمفهوم التاريخي أم الآني.
في كل البني الاستعمارية والعنصرية، دأب الاستعمار الى قوننة ذاته وقوننة وضعية ضحاياه، وبذلك اعتقد بأنه ازداد شرعيةً لكن فقط في نظر نفسه ومشروعه ومحاكمه وقوانينه. بينما الواقع الاستعماري لم يتغير بالنسبة للضحايا الأ بكفاحها.