أذكر عندما كنت في السابعة عشر من عمري وفي بداية الصف الثاني عشر كنت نشيطا جدا في الشبيبة الشيوعية، إذ رضعت الشيوعية من بيت أبي. وكنت إنسانا مسيّسا، مثقّفا، ومليئا بالحماس للفكر الشيوعي الأممي، الرافض للظلم، المحب لشعبه، ثابت الخطى ومجنِّدا حولي الكثير من الشباب، جمهور أهل عيلبون الذين أحببتهم حبّا شديدا، محبة استقيتها من محبة والدي لأهل بلده ولأبناء شعبه، حينها تلقّى والدي وبشكل مفاجئ دعوة للتحقيق أمام الشاباك.
أقول بشكل مفاجئ على الرغم من أنّه لم يكن موضوع انتماء والدي الواضح لشعبه ولقضاياه موضوعا جديدا، فله تاريخ يشهد له. فمنذ نعومة أظافري أذكر الشرطة الإسرائيلية تزور بيتنا باستمرار وليست زيارة محبة أو ضيافة بالتأكيد!، ففي نهاية كل سنة كان والدي يستلم "هدية" أمر إداري بإقامة جبرية تمنعه من دخول المناطق المحتلة بادعاء أنّه خطر على الأمن، وكانت الملاحقات ومحاولات تدمير كل أمل له في العيش الكريم جزءا طبيعيا من حياتنا، فكان كل شيء في هذه الدولة مغلقا أمامنا.
لقد كان والدي أوّل عضو في الشبيبة الشيوعية في عيلبون بعد انضمامه إليها عام 1950 وإقامة فرع الشبيبة في عيلبون، وقد رافق أخاه الكبير لطفي زريق - رحمه الله – الذي كانَ شيوعيا مِقداما، مناضلا ومفكرا وكان ملهما له، إلى القرى المجاورة لبثّ الفكر الشيوعي والتقدمي وتوعية الناس لمؤامرات الحكم العسكري للسيطرة على أراضي الجماهير العربية في إسرائيل، وفي نهاية شهر أكتوبر عام 1952، بينما كان عمر والدي لم يتجاوز التسعة عشر عاما، تم حرق متعمد ومقصود لبيت العم لطفي (بيت والدي فيما بعد) بهدف حرق العم لطفي، وكان والدي في الغرفة التي تم حرقها مع كثيرين آخرين. في تلك الليلة المشؤومة احترق عمي المرحوم سهيل سليم زريق حتى الموت. تم حرقه وقتله وهو نائم وادع دونما ذنب ارتكبه سوى أنه أحب وطنه وبلده وحلم بعالم أفضل وأجمل.
حرق ووفاة العم سهيل قلبت حياة العائلة الكبيرة كلها، فتحوّل اسم سهيل إلى رمز للثمن الغالي الذي دفعه أبناء عائلة سليم زريق لانتمائهم لحزب شيوعي، أمميّ يتضامن مع المظلوم، يحلم بتغيير العالم المستغل والاستعماري إلى عالم لا ظلم فيه ولا استعمار، لمحبتهم لوطنهم، وإيمانهم بحق الشعوب في الحرية.
لم يكن حرق أخيه نهاية الثمن الذي دفعه والدي لالتزامه بمبادئه وانتمائه لشعبه، بل المطاردة استمرت وتفاقمت، فبعد أشهر معدودة من حرق العم سهيل، تم نفي والدي ابن التسعة عشر عاما مع باقي رفاقه، اخوته المرحومين معين ومنير وكذلك المرحومين فوزي زريق، سليمان زريق والرفيق إلياس بطرس أشقر وكذلك لطفي بطرس زريق أطال الله بعمره، لمدة سنة كاملة. سنة كاملة دون بيت يأويهم، دون طعام أو شراب مؤمّن، وفي ظروف غير إنسانية البتة.
أُلزم والدي مع باقي رفاقه في كل فترة النفي أن يحضر إلى مركز الشرطة لإثبات وجوده أربع مرات كل يوم، لذلك في نهاية الفترة تم تقديمهم للمحاكمة بتهمة التأخر في الحضور لمركز الشرطة وإدانتهم بالسجن لفترات مختلفة. وكان والدي قد حُكم عليه بالسجن مدة 4 أشهر، كما أذكر.
عاد والدي إلى عيلبون بعد نفيه وسجنه مليئا بالحماس لاستمرار مسيرته النضالية، غير آبه بجبروت هذه الدولة التي تحاربه وتحارب رفاقه بكل القوة لكسر عزيمته، إخلاصه وانتمائه لشعبه ولمبادئ حزبه. لم يهن ولم يقبل الهوان يوما، آمن بحرية الشعوب وبالتضامن الأممي وبالتحالف اليهودي العربي وأذكر تماما كلماته: "إنّ الرفاق اليهود هم الذين حمونا."
استمرت الشرطة باعتقال والدي في كل مناسبة ولا سيما بعد مشاركته في مظاهرات أول أيار في سنوات الخمسينات والستينات، ففي كل مناسبة كانت يد الشرطة إليه طويلة، ولكن لم يُنْهِهِ كل ذلك يوما عن النضال والاستمرار في طريقه التي آمن بها حتى النخاع. أنا أذكر جيّدا والدي حين كان يقف في اجتماعات الحزب الشيوعي إذ كان يقول: "لقد بذلنا الغالي والنفيس من أجل خدمة شعبنا، ولن نتوقف عن هذا الطريق".
وعودة إلى الدعوة التي استلمها والدي عام 1982 للحضور للتحقيق أمام الشاباك، فقد تبيّن أنّ هدف هذه الدعوة استغلال ضعف الأب الناتج عن محبته لابنه وحرصه على سلامته ومستقبله! وها أنا أقتبس لكم من المحادثة التي تمّت بين محقق الشاباك آنذاك ووالدي التي كانت بالأساس محاولة ترهيب لا أكثر:
ف: والدي
م: المحقق
م: انا أرى ابنك لؤي نشيط جدا في الحزب والعمل الجماهيري:
ف: نعم وأعتز بهذا
م: سمعت أنّه شاطر في المدرسة.
ف: نعم
م: ماذا سيفعل بعد إنهاء المدرسة الثانوية؟
ف: يتعلم في الجامعة.
م: بأيّة جامعة وأين؟
ف: في إسرائيل جامعات كثيرة.
م: وبعد أن ينهي دراسته، ماذا سيفعل؟ فهو بحاجة للمساعدة (بالإشارة إلى مساعدة الشاباك في التوظيف).
ف: لا تأبه له، فعندي منجرة وهو سيعمل بها ولن يحتاج أحد.
م: لكنه مريض ب"الأزمة" ولن يستطيع العمل في المنجرة.
ف: لا تهتم له فهو سيستطيع أن يجد قوته ولن يستنجد أحدا منكم.
هذا المونولوج الذي بقي في ذهني وشعرت أنّه في مفهوم ما عبارة عن وصية من والدي ألّا أطأطئ رأسي. وكما قال عمر المختار "كن عزيزا وإياك أن تنحني مهما كان الأمر... فربما لا تأتيك الفرصة كي ترفع رأسك مرة ثانية".
وتابعتُ المسير في طريقك المشرّف يا أبي دون كلل أو ملل وسأستمرّ...
شكرا لك يا والدي الغالي كل يوم وكل ساعة على طريق مشرّف مليء بالكرامة والعزة، طريق إنساني لا يعرف التفرقة بين دين أو طائفة أو قومية، طريق مبني على محبة الإنسان كإنسان. فعلى دربك سرنا وبدربك نعتز.
رحمة الله عليك وليبقَ ذكرك مؤبدا.