رويدا رويدا تعيد الدولة استحداث عدد من أدوات الحكم العسكري والذي انتهى رسميا عام 1966. لم يكن الالغاء في حينه دفعة واحدة، بل في كل مرة جرى إبطال منظومة منه، حصل ذلك فقط بعد أن بلورت الدولة منظومة بديلة تحقق غاياتها بأدوات تبدو مدنية، كما وأبقت على أنظمة الطواريء الأمنِيّة والمدنيّة، بل طورت قدراتها من خلال الابقاء على حالة الطواريء ومنظومتها.
ليس هذا النهج بجديد، ورغم عدم انكشاف غالبية الوثائق المؤرشفة بل وتمديد سريتها لغاية العام 2063 قابلة للتمديد، فما هو متوفر منها ومن ابحاث عنها، يؤكد ان تعامل الدولة مع بقاء فلسطينيين في حدود سيطرتها، قد حدث من باب "الخطأ" الذي ينبغي تصحيحه.كانت احدى اهم محطات السعي الى "تصحيحه" اي التخلص منهم، هي مجزرة كفر قاسم، الجرح المفتوح في وجدان الوطن والشعب والتي نقف اليوم عشية ذكراها السنوية الخامسة والستين. وإن كانت المجزرة قد وضعت حدا لطموح المشروع الصهيوني المباشر بالتهجير وبإمكانية طرد من بقوا في الوطن، فقد حفّز الأمر الى البدء باستبدال الأدوات واعتماد منظومات الضبط والرقابة متعددة الأذرع والمتكاملة وطويلة الامد.
لعبت إسرائيل ولا تزال، على عامل الوقت في استراتيجياتها الساعية للضبط وهندسة أنماط تفكيروسلوك الجماهير العربية الفلسطينية ، وذلك ضمن مخططاتها تجاه مجمل الشعب الفلسطيني. في حين تمهّد لسياساتها العليا بهدوء الى ان تحين لها فرصة لتحقيق غاياتها. كما من شأن عامل الرهان على الوقت ان يضمن التآكل في قوة موقف الجمهور المستهدف وتراخي جهوزيته. ومن الامثلة لأثر السياسات طويلة الامد، بالامكان الاشارة الى أثر قرار وزارة المالية برئاسة نتنياهو في ظل حكومة شارون، والتي قضت بتقليص جوهري في مخصصات التأمين الوطني للاولاد دون سن الثامنية عشرة. كانت احتجاجات ثم هدأت واعتادت الناس عليها. بمرور عقد على تطبيق هذه السياسة "المدنية" حصل تراجع جوهري في نسبة الولادة بين العرب حسب معطيات بنك اسرائيل، بينما اعتبرت ذلك مؤسسات الامن القومي بأنه انجاز جوهري في سياق "السياسة الدمغرافية". المثال الاخر هو قيام اسرائيل بعد قيام السلطة الفلسطينية بنقل الالاف من الفلسطينيين عملاء الاحتلال من الضفة الغربية وغزة الى الداخل، وتحت اشراف ومسؤولية وزارة الامن. كان هناك رفض جماهيري شعبي وسياسي واسع وحقيقي. مع مرور الوقت جرى تغيير اسماء عائلات غالبية هؤلاء وإلحاق اولادهم بالمدارس بداية بالمدن الساحلية والمختلطة ثم توسّع الى بلدات اخرى، وهدأت ردود الفعل، حين نتحدث اليوم عن عالم الجريمة وتجارة السلاح والخاوة والعاملين لدى عصابات الاجرام المنظم لتنفيذ القتل والابتزاز، فهناك علاقة مباشرة بين الامرين.
بالاضافة الى ما ذكر فهناك عامل لم يلتفت الانتباه اثناء حصوله لكنه ايضا كبير الاثر اليوم، وهو الخطة الحكومية الفعلية في قبا عقد من الزمن، بمحاربة الجريمة المنظمة في البلدات والمدن اليهودية في مركز البلاد ودفعها نحو البلدات العربية الفلسطينية او الاحياء العربية في المدن الساحلية. واعتبرت في حينه ان استفحال الجريمة في المجتمع اليهودي وبالذات في مدينة مثل اللد، هو مسألة أمن قومي بمفهوم انها ستدفع اليهود الى الهجرة من البلاد او هجرة هذه المدن وبالتالي سيتغير الطابع الدمغرافي لهذه المناطق في حال سكنى العرب فيها. بينما اليوم ترسّخت منظومة الجريمة في بلداتنا وتجمعاتنا.
أنظمة طواريء الكورونا: تنتهي الكورونا ونبقى مع الانظمة
تسنى لي أن اتابع عن كثب تقارير مركز عدالة حول أنظمة طواريء الكورونا، وهو تقرير اعدته المحامية ميسانا موراني وطاقم عدالة، ويتحدث عن المرحلة الاولى من الجائحة واعلان حالة الطواريء الصحية المدنية، ويعالج تعاطي المحكمة العليا الاسرائيلية مع الالتماسات المقدمة لها والخروقات الفاضحة من قبل الدولة لقوانينها وبالطبع لمعايير القانون الدولي وحقوق الانسان. يشبه التقرير لعبة البازل (التركيب) حين تكون بدرجة صعوبة عالية، في البداية لا يعرف المرء بالضرورة من اين يبدأ وما هي الصورة، ورويدا رويدا تأخذ شكلها الذي لا ينتهي الا بالمرحلة الاخيرة لتظهر الصورة بكامل معالمها. أظهر التقرير وهو يشكل مسحا هو الاوسع للالتماسات المقدمة أن المحكمة العليا شكلت في نهاية المطاف الاداة الأكثر نجاعة للدولة في تبرير وقوننة خروقاتها، وحين لم تستطع المحكمة ذلك، فقد أمهَلت الدولة الوقت لتعود الاخيرة بتشريع ما قامت به من تفعيل انظمة بشكل غير قانوني. واذا تعثرت هذه المهمة ايضا تقوم بإرجاء البتّ بالالتماسات الى حين تصبح غير راهنيّة. وفي مجمل الحالات تم ردّ الالتماسات.
تحت إطار انظمة الطواريء الصحية دخلت الدولة الى الحيز الذي لا يتوجب علي الدول ان تكون فيه في حياة الناس مثل التعقّب، وفي المقابل أهملت مساحات من الحيز الذي من دورها الاساسي القيام به، واحد الامثلة هو عدم منالية التطعيمات في القرى غير المعترف بها في النقب. كما وقامت بما يشبه عملية تسلّل أقرب الى العدوان غير المعلن، في عمليات غير مألوفة، مثل تموضع جنود الجبهة الداخلية في القرى والمدن والتجمعات العربية، وتطبيع هذا التواجد، اضافة الى اناطة مهام بجهاز الامن العام في تعقّب حركة الناس، وفي بعض الحالات القيام بوضع حواجز وإغلاق عدد من هذه القرى والبلدات، اضافة الى زرع الكاميرات واجهزة الرقابة في ساحات التجمعات العربية وشوارعها.
وكل هذه المنظومة تم تفعيلها بشكل متكامل فقط في السعي لقمع هبة الكرامة في ايار الاخير، وجرى اعتماد مخططات لزيادة نفوذ الجيش والوحدات الخاصة والمستعربين في اية مواجهة مستقبلية ودون الاعتماد على الشرطة وحدها، وفوق ذلك ليس تنشيط لشاباك دائم الحضور وإنما في شرعنة وتطبيع دوره بين هذا الجمهور، وتحميل هذا الجمهور جزءا من المسؤولية عن تدخل الشاباك. ليبلغ الأمر في هذه الايام اجراء تدريبات عسكرية اسرائيلية في أم الفحم و"احتلالها"، وكذلك بتوجيه كتيبتين من الجيش اللتين تعملان في الضفة الى النقب تحت مسمى "محاربة الجريمة" بعد التحريض الرسمي والاعلامي الدموي على الوجود العربي الفلسطيني في النقب، وكتيبتين أخريين الى القدس تحت نفس المسمى بينما القصد هو قمع المظاهرات ضد الاحتلال. وكذلك تخويل الشرطة بصلاحيات ادارية دون مرجعيات.
تقوم عقيدة كلٍّ من الجيش والشاباك على التعاطي مع العدو والايقاع به ورصده وتوقع مناحيه ومستقبله، والانتصار عليه. ليست اجهزة نظام عام وانما اجهزة أمن قومي مقابل العدو. فالدولة ترفض الاعلان رسميا عن فلسطينيي الداخل كعدو، لأنها في ذلك تتنازل عن سيادتها من منطلقها. في حين تتعامل جوهريا كذلك ضمن مجمل سياساتها تجاه الشعب الفلسطيني.
في الاعوام الاخيرة مع تعاظم الوزن السياسي للفلسطينيين العرب في الداخل، فقد فرض هذا التعاظم الاعتراف بدورهم، لكن ليس من باب الاعتراف الايجابي ولا الشرعية وإنما من باب العقبة أمام التوازنات السياسية الاسرائيلية ذاتها، وانعكس في تعثّر امكانيات تشكيل ائتلاف حكومي بسبب هذا الوزن الذي أخلّ بالتوازنات الاسرائيلية الصهيونية التقليدية. بل اعتبرتها المؤسسة الصهيونية الحاكمة فائض قوة غير مقبول.
نقطة ضوء وبارقة أمل؟
مع النشر عن "الخطة الحكومية" لمكافحة الجريمة، بدأت تخرج أصوات عربية تبارك الحكومة، ولا أقصد فقط اعضاء الائتلاف الاسرائيلي الحاكم، بل وتؤكد انها "نقطة ضوء" و"بارقة أمل"، و"واعدة تحمل بشرى"، هذا كله على الرغم من عدم وجود اية مؤشرات لتحسن بالوضع القائم على الارض الدامية. في الحكومة والاعلام الاسرائيليين يتحدثون بنشورة الانتصار لكن القتل يتسارع على الارض.
على الرغم من الضعف الذي لازم الحركة السياسية، وفي أساس ذلك فقدان القدرة على القضاء على الجريمة والسلاح وهي أمور لا يستطيع القيام بها قانونيا وعملياتيا الا الدول. لكن في حالتنا فالدولة متورطة وتسعى الى اخضاععنا الى حلولها، وتدفيعها خاوة أخلاقية سياسية مقابل الحصول على حقها بالأمان. ينبغي ايضا الالتفات الى ان هناك نجاح كبير في كون الدولة باتت لا تستطيع تجاهل مسألة الجريمة المنظمة والقتل والسلاح في المجتمع الفلسطيني في الداخل، فالنضال الشعبي المتواصل والتصعيدي بما فيه المسعى السياسي لنقل الاحتجاج الى المجتمع الاسرائيلي ليس كنداء او استعطاف، بل لتعطيل المرافق الاسرائيلية العامة، فقد نجحت جماهير شعبنا في لفت الانظار الى مسألة الجريمة وفي الضغط على الدولة ومؤسساتها وشرطتها لتقوم بدورها الملزم. في المقابل فإن تورط الدولة واجهزتها الاستخباراتية في تعاملها مع الجريمة، يتضح الان بانه سوق السلاح يرتد عليها..
عن مخاطر إشغالنا في بلورة الحلول
ما قد يبدو سعيا من الدولة لاشراكنا في بلورة الحلول بتفاصيلها، يعني تحميلنا المسؤولية ليس على دورنا الداخلي كمجتمع، بل تجاه المنظومة الامنية التي ستنفذ خطتها، والتي لن تكون منظومة مؤقتة بل ثابتة وذات بنية متكاملة مقبولة وطبيعية على الضحية لتعزيز الرقابة والضبط الأمنيَّين والسياسييَّن عليها.
ما انجزه الدور السياسي الجماهيري والبرلماني والحقوقي لغاية الان كان جزئيا. الا ان المتوخّى من الحركة السياسية ومرجعياتها أن تقوم به، هو مواصلة الضغط على الدولة لمحاربة الجريمة حسب غاياتنا لا غاياتها ومن دون الزج بنا كشركاء رغما عنهم. لن نقبل بشروط الخاوة الاسرائيلية.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com