فقدت الساحة الأدبية والحياة الثقافية في الداخل الفلسطيني الأديب مصطفى مرار، أحد أدباء الرعيل الأول الذي ساهم في تشكيل ملامح القصة القصيرة وأدب الأطفال.
معرفتي بالراحل العزيز مصطفى مرار تعود إلى منتصف سبعينات القرن الماضي، وكنت حينها طالبًا في الصف التاسع، وفزت بمسابقة مجلة لأولادنا، وهي مجلة للطلاب كانت تصدر عن دار النشر العربي، وكان الراحل قد بدأ يشغل المحرر لمجلاتها "السندباد" و"لأولادنا" و"زهرة الشباب" ثم "مجلتي"، وكانت الجائزة رحلة بحرية من حيفا إلى عكا، وفي حيفا كان المرحوم في انتظارنا فاستقبلنا ببشاشة وحفاوة، وكان ذلك بداية التعارف. بعد ذلك ، وكنت على مقاعد الدراسة الثانوية بكفر قرع، تم اختياري عضوًا في الهيئة الطلابية لمجلة "زهرة الشباب" التي تعنى بشؤون الطلاب الثانويين، ودعينا إلى اجتماع في مدينة حيفا مع هيئة تحرير المجلة للتشاور حول مواد المجلة وكيفية تحسينها والارتقاء بمستوى المجلة، وطبعًا كان الراحل حاضرًا في الاجتماع فتعرفت عليه أكثر، ثم حصل لي الشرف اللقاء به في مطار اللد، حيث شاركنا نحن الهيئة الطلابية للمجلة مع الفائزين بمسابقة زهرة الشباب، وكانت رحلة جوية فوق مدينة تل أبيب، وكان الراحل في مقدمة المستقبلين والمرحبين بنا، وعرفنا على ابنته التي "نسرين" التي اصطحبها معه، وكان لنا حديث طويل، توسمت من خلاله الخلق العظيم والحياء الإنساني الذي يتمتع ويتصف به، وعرفته صاحب قلب كبير، وشخصية فذة، وكاتبًا بلا ضجيج. وأذكر أنني كنت كتبت مقالًا حول سيرته وتجربته الإبداعية وارسلته للنشر في مجلة "زهرة الشباب" لكنه رفض النشر كونه المشرف على المجلة.
بعد ذلك أتيح لي اللقاء بالفقيد مصطفى مرار في حفل إحياء ذكرى الشاعر راشد حسين في قريتنا "مصمص"، وكان بصحبة الكاتب والأديب المرحوم محمد حمزة غنايم، وقد استضافهما في بيته بعد الحفل أخي الأديب المرحوم نواف عبد حسن، وقد تجاذبنا أطراف الحديث عن شؤون الأدب والثقافة، وكانت جلسة ماتعة وثقافية بامتياز، لا تنسى أبدًا. ثم تبادلنا الرسائل البريدية وأرسل لي عددًا من كتبه، منها "أوراق الحلواني"، وكتاب "المدخل إلى أدب مصطفى مرار"، الذي أعده ورتبه الأستاذ طارق أبو حجلة.
مصطفى مرار كاتب قصصي ومبدع عريق، وركن هام من أركان القصة القصيرة الفلسطينية، وأحد المساهمين في صياغة هويتنا الثقافية. عرفناه قاصًا بارعًا للكبار والصغار، ومربيًا معطاءً، وإنسانًا دمثًا، طيبًا، خلوقًا، صادقًا مع نفسه ومع قلمه وقرائه، ومحبًا للبساطة القروية والفلاحية.
ومنذ شبابه المبكر أغوته الكتابة وأغرته القصة فعاقرها وأدمنها، وأمتاز بغزارة نتاجه في مجال القصة الاجتماعية الواقعية ذات النكهة الشعبية الفلسطينية الخاصة، وبحق قال عنه الشاعر تركي عامر "الكاتب الشلال والمدرار".
ينتمي مصطفى مرار إلى نوع من الشخصيات التي لا تصنع حولها هالة مقدسة، ولا تسعى للظهور والشهرة والجعجعة واستجداء المدائح والاطراء، فقد كان هادئ الطباع لا يحب الضجيج والصخب والترويج الإعلامي، ولا يجيد فن العلاقات العامة والمنافسة على المنصات الأدبية وميكروفونات الخطابة، وقد نال الاحترام والتقدير من كل من عرفه، واحتفت به الأوساط الأدبية والثقافية، وكرمته المؤسسات الثقافية والمجلات الأدبية (الأسوار، الشرق، والمواكب).
ولد مصطفى مرار في جلجولية العام 1929، وكان والده شحادة مرار فلاحًا أصيلًا، أما أمه صبحة الرضوان فكانت امرأة تقية صالحة ورعة تحفظ سورة ياسين وسورًا قصيرة تعالج الرمد والروماتيزم. بدأ يعمل في حراثة الأرض وزراعتها وتعشيبها، ثم عمل في دكان أبيه، ورعاية البهائم والاعتناء بها، وكان يبيع الصبر والتين والعنب، ثم عمل تاجرًا يبيع شاحنات البطيخ والشمام في يافا.
تعلم مصطفى مرار في مدرسة كفر جمّال ومن ثم في جلجولية، والتحق بعد ذلك بدورة دراسية للمعلمين ليكون أول معلم رسمي في قريته، ثم واصل تحصيله الجامعي ونال شهادة الـ B.A من جامعة بار ايلان، وسطع نجمه مربيًا مخلصًا لرسالة العلم والتعليم، حتى تقاعده في العام 1982. وبعد تقاعده تفرغ كليًا لأداء رسالته في الأدب والإبداع ليصبح أحد أساطين القصة وأعلام أدب الأطفال في بلادنا، مدرارًا ومعينًا لا ينضب.
كتب مصطفى مرار ونشر مئات القصص للكبار والصغار، وصدر له عشرات الكتب للأطفال والمجموعات القصصية، بلغت 86 عملًا أدبيًا. وجاء كتابه "أوراق الحلواني" سيرة ومسيرة، هرمًا متماسكًا متينًا سلسًا في بنائه وأسلوبه ومضمونه، أشبه بسمفونية متألقة متناغمة كان فيها شاهدًا أمينًا على العصر، يطلعنا ويسرد لنا هموم ومعاناة وعذاب شعبه، والتذكير المتواصل بالنكبة وما واكبها من ترحيل وتشريد وتشتت ولجوء ومكابدة من الذل والفقر والعوز والاضطهاد والقهر والتمييز ومصادرة الأرض.
وتعج حكايات هذا الكتاب بالشوق والحنين والعواطف الإنسانية والمشاهد الحياتية التي تنبض بالأحداث المصيرية وتثير فينا الأشجان والانفعال.
وفي أعماله القصصية عالج مصطفى مرار الكثير من الموضوعات، التي تتمحور حول النفس البشرية والحياة الواقعية اليومية، والعلاقات بين الناس، والتقاليد المتوارثة، وتناول مسائل وقضايا الحرب والفقر والظلم والثورة والأمل والسعادة والشقاء والقهر والحرية، ورصد بواقعية وأمانة أحداث النكبة وتداعيات المرحلة ومعاناة شعبنا الفلسطيني في الداخل والمنافي والشتات القسري، من خلال مواكبته ومعايشته للأحداث السياسية والاجتماعية الهامة، حتى يكاد يؤرخ لمرحلة زمنية هي من أصعب وأخطر المراحل في تاريخ شعبنا.
وتأثر مصطفى مرار بأجواء القرية العربية إلى درجة كبيرة، وهو كالقاص الفلسطيني الراحل محمد نفاع، صور واقع القرية والبيئة الشعبية وكتب عن ناسها وعاداتها وتقاليدها وتراثها وجذورها وتطورها العصري، بأسلوب مشوق وماتع ومشحون بالمواقف الإنسانية والدرامية، وقدم للقرّاء قصصًا اجتماعية ووطنية وإنسانية وواقعية، تجلت فيها ثقافته ووعيه وذكائه وبراعته في الصناعة القصصية، وبرز فيها عنصر التشويق وسرد الأحداث واستخدام اللغة العامية المحكية وتوظيف الأمثال والقصص الشعبية لخدمة غرض قصته.
ويمكن القول إن قصص المرحوم مصطفى مرار مشتعلة بالحنين والطفولة المعذبة، ومضاءة بالذاكرة الملونة للوطن والمجتمع والقرية الفلسطينية، وتمسك بخيوط الشوق واللهفة للحارات والأزقة وليالي الشتاء والمراعي والروابي الخضراء والينابيع والأودية وجرار الماء ولقاءات العشاق على الغدير، لهفة مشتعلة ومتوقدة لا تخبو أبدًا، ولا تنتهي، حالمة بالمكان والزمان.
مصطفى مرار الكاتب/ الإنسان من أكثر كتاب القصة الفلسطينية إنتاجًا وغزارة، وفي كل أعماله يصور هموم وقضايا الإنسان العربي الفلسطيني، الاجتماعية والسياسية والوطنية والاقتصادية، ورحيله يشكل خسارة كبيرة بكل المقاييس لأدبنا في هذه البلاد، ولفن السرد القصصي وأدب الطفل خاصة.
وداعًا يا أبا نزار أيها الصديق الأديب والإنسان الجميل والرائع، وسلامًا لروحك حيث استقرت، وحيث تنتظر.