الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 23 / نوفمبر 19:01

كوابيس سعد-بقلم: رافع يحيى

رافع يحيى
نُشر: 19/03/22 23:56

كان سعد يحلم كلّ ليلة بجمال النّيل، فيردّد بفرح حينما يستيقظ:

النّيل ذاكرة
النّيل سرب من المنامات السّعيدة
النّيل معجزة الله على الأرض
وحينما تجرفه هذه المنامات العذبة
يرى نفسه في المنام قاربًا حرًا
يرى نفسه في المنام سمكة مفعمة بالسّكينة والطّمأنينة
يرى نفسه في المنام قندسًا يبني بيته بسعادة وحبور
يرى نفسه في المنام منقذًا ينقذ عرائس النُيل من كذبة الآلهة القديمة!
حاول أن يُعرض عن مناماته، خشية الإفراط في التّوقّع، ولكنّ دون جدوى!
ذات ليلة كحلاء تقلّب في السّرير، حتّى يأتيه النّوم فيجري النّيل في منامه وعروقه، لكنّه أخفق في ذلك، فقال في نفسه: كيف سيكون ليلي دون النّيل!؟ وما النّيل إلّا الخير من ربّ الخير، فكيف سيبدو الدّجى والحقل والغد دونه! إنّه كالوتين... أنا صلصال من حمأ مسنون، فكيف لا أشتاق للماء والطّين! وجاءه الجواب يبشّره باليقين، هناك ما يحول بينك وبين النّيل، إنّها العيون! حاول أن ينفي عن نفسه هذه التّهمة، فقال في نزق: هذه الإجابة، حمّالة أوجه، ثمّ همس في سرّه بحدّة: لا...!
لم ينم تلك اللّيلة ولم يحظ إلّا بالأرق والقلق...
في الصّباح توجّه إلى عمله مضطربًا والنّعاس يغطّي الجفون وكأنّ الأسر قدرها هذا الصّباح الحزين، دخل المكتب، ارتشف قهوته ببطء شديد...لم يلمس ملفًا من الملفّات الّتي من المفروض أن يوقّعها بعد المراجعة، نظر إليها بعداوة ونزق. لم ينبس ببنت شفة، لم يحرّك ساكنًا، لم يجب على رنين هاتفه الخلوي المزعج المتواصل.. أغلق الهاتف، ليحظى بالصّمت المطلق!
حاول أن يشغل نفسه، فاستنجد بذاكرته الخصبة، كدلتا النّيل، فوجد هناك كتاب الجغرافيا، فصل كامل عن النّيل الأعجوبة، منابعه، أساطيره، فيضانه وضحاياه من العرائس/ القرابين، جماله، عظمته، سرّه، تعرّجاته، والأهمّ من ذلك كلّه، شعب النّيل! ثمّ تمتم بشوق، هذا النّيل، ذلك النّيل، رافقني في دروس الجغرافيا في الابتدائي والإعدادي والثّانوي، وما بعد...! أذكر أنّي في بداية الثّانويّة حصلت على علامة ممتاز بسبب ما أعرفه من معلومات عن النّيل...
ضاق صدره ممّا يحصل!! هذا القلق بدأ _بالضّبط_ البارحة مساء... حينما كان يسير في سوق القدس، بتأن وتركيز، قاصدًا حانوت التّحف ليشتري من هناك هديّة تذكاريّة يهديها لصديقه عندما يسافر إلى الأردن، بعد أسبوعين. قبيل منعطف من منعطفات أزقّة السّوق قابلت عيناه عينيّ امرأة يراها أوّل مرّة، كانت تحدّق به بكامل حواسّها، اضطرب ودهش وتساءل في سرّه: من تكون؟ ماذا تريد؟! التفتّ إليها للمرّة الأخيرة، ومضى نحو حانوت التّحف، لكن صورتها وصوتها ظلّا يلاحقانه: أنا أنت، أنا أنت، أنا أنت...!
أربك حضورها خياله وتفكيره! تبعه صوتها وهو يختار الهديّة، كانت تجلس أمامه في حانوت التّحف، هل يبصرها أحد غيره! استعاذ من الشّيطان الرّجيم! دفع ثمن التّحفة بسرعة ولم يساوم، من باب الاحترام والتّشجيع لأهل القدس واقتصادها. خرج كالمصعوق من الحانوت وهو يرتعش، يتساءل بحيرة، ما الّذي يحدث؟! ما الّذي يجري لي؟! هل هو صوتها؟ صورتها؟ أو ما تقول؟! إنّ ما يحدث لشيء عجيب! رحمة منك يا ربّ العالمين!
لقد سلب حضورها الطّاغي نومه من مرقده! وبالأصحّ هما عيناها من قلب الموازين كلّها! والأصحّ الأصحّ من ذلك كلّه أنّ عينها المسالمتين، قالتا له بوضوح قاتل: أنا أنت! فتساءل، من تكون إذًا؟! وماذا تريد منه!؟ كيف تمكّنت هذه المرأة من التّغلّب على منامات النّيل الخصبة، الممتعة، الجميلة الّتي كانت تطوف في ليلي الطّويل؟! كيف؟! ما سرّ كلّ ما يحصل؟! هل هي القهوة!؟ لا، لا...لا مجال للتهيّؤات، ابتسم وأردف، لو كنت أتعاطى الحشيش والأفيون، لربّما أدركت تفسير ما يحصل! ولكن أين أنا من ذلك!
في اللّيلة التّالية، ألقى نفسه في السّرير، حاول أن يرشي الظّلمة لتهبه نومًا عميقًا دون ألغاز، لم يجلس على ضفاف النّيل السّاحرة، لم تطلّ تلك الفتاة اللّغز! فشعر بالرّاحة لأنّ اللّيل تعاطف معه وسيهبه نومًا ثقيلًا محايدًا. وما أن استسلم لسلطان الكرى، حتّى رأى ظلّه يسير في أسواق دمشق، يتبعه ظلّ طفلة دمشقيّة، كلّما استدار سعد ليسألها من أنت؟ كانت تختفي كلمح البصر! تمنّى لو أنّها تنبس ببنت شفة، ولكن...! كانت تكتفي بأن تظهر له الكثير من الاحترام، لم تكن تخشاه، كانت تحسّ بالطّمأنينة والأمان وهي تسير على مقربة منه. في الصّباح استيقظ من نومه، شرب قهوته الصّباحيّة وسأل نفسه، عجيب! ما الّذي يحصل؟! ماذا سأرى إذًا في منامي غدًا؟!
سعِد سعد عندما ارتشف قهوته في أحد مقاهي بيروت القديمة في منام اللّيلة التّالية، مع "شلّة" أصدقاء تسامر معهم، وحينما استيقظ في صبيحة اليوم التّالي، والنّعاس بادِ على محياه، لم يتذكّر أحدًا منهم!
وصل مكتبه متأخّرًا، وبدأ يتصفّح الانترنت في هاتفه الخلويّ بحثًا عن تفسير مقنع لأحلامه، دون فائدة...! كان جسده رابضًا على الكرسيّ ليثبت وجوده في المكتب، لكنّ أحاسيسه كانت أسيرة الفوضى المطلقة! أمّا عقله فقد خرج لإجازة مفتوحة. حاول أن يحرّك شفتيه لتقدّما له عبارة نافعة، فخانتاه! جرّب أن يستنطق حواسّه فلم يلق منها إلّا الفوضى والدّهشة، وبدا له كلّه كأنّه يسير في الضّباب.
في نهاية النّهار عاد إلى بيته وهو يحلّق في اللّاشيء... تمتم بعبارات مسموعة، لقد بلغ صراخ التّاريخ والجغرافيا أقصاه في كياني؟! كيف سينتهي هذا الصراع المتأجّج بين المكان والزّمان في مناماتي؟! هل الفانتازيا هي مصيري المحتوم؟! ألقى جسده المتعب وهواجسه على الكنبة، أحسّ أنّ روحه تكتوي داخل أتون الأسئلة المتوالدة المتناسلة دون رحمة! غرق في نوم طويل، حمله إلى دجلة والفرات، وبغداد! ذهل حينما رأت عيناه القصب يبكي والنخيل ينوح! غمره حزن وقلق عميقان، لم يتحمّل قساوة هذا المشهد، استيقظ مذعورًا من نومه، استغفر وأيقظ روحه وجسده بماء بارد، ثم حضّر لنفسه فنجان قهوة، ارتشفه على مهل، كان الوقت ثقيلًا فخلع ثياب العمل ولبس ثيابًا مريحة، ثمّ نزل إلى الشّارع ليحظى بقليل من النّسيم وليمارس رياضة المشي. رحّب النّسيم به لحظه وصوله إلى الشّارع، لكنه أجهش بالبكاء، حينما انتبه أنّ كلّ شيء حوله يسير ويتحرّك، الأشجار، السّيّارات، العمارات، القطط، الغمام، وحده كان واقفًا وقد فقد القدرة على السّير! عجز عن التّقدّم خطوة واحدة، تسمّر مكانه، صرخ بلوعة، ابتلع الضّجيج والجلبة نحيبه، فلم يسمعه أحد...!!
 

مقالات متعلقة