في هذه الأيام بالذات عاودت قراءة كتاب يحاول أن يعالج موضوعين شائكين، المحرقة والنكبة، قام بتحرير الكتاب بشير بشير وعاموس غولدبرغ، والذي صدر عن معهد فان لير في القدس. ما أثارني لقراءة الكتاب هو السؤال، هل يمكن أن نتحدث عن موضوعي النكبة والمحرقة معًا؟ فالمحرقة حدث إنتهى بينما النكبة لا تزال تداعياتها قائمة، المحرقة لم تحصل بسبب الفلسطينيين، بينما النكبة تمت بواسطة الشعب اليهودي، المحرقة هي مأساة اضطر الفلسطينيون أن يدفعوا ثمنها رغم أنهم غير مسؤولين عن حصولها.
يحاول الكتاب أن يثبت وجود رابط تاريخي بين الحدثين، حتى لو لم يكن مباشرًا، بين إنشاء دولة اسرائيل والنكبة الفلسطينية. الكتاب يخرج بنتيجة ضرورة الحديث عن الموضوعين معًا رغم حساسية الموضوعين، من منطلق أنه عندما تتم المصالحة بين شعبين لا بد من العودة للذاكرة التاريخية والمأساوية لكلا الشعبين.
لكن إذا بحثنا في موضوع التعامل الاسرائيلي الرسمي مع النكبة، نلاحظ محاولة تجاهل النكبة أو حتى اعتبار مجرد طرح الموضوع بأنه غير شرعي، فالكنيست شرّعت قانونًا يمنع الفلسطينيين من إحياء ذكرى النكبة في المحافل الاسرائيلية. وهنالك الكاتب زلبر أشقر يذكر في كتابه "العرب والمحرقة" أنه لا يمكن المقارنة بين النكبة والمحرقة، فلا يمكن حسب رأيه مقارنة إبادة شعب بشكل وحشي بطرد شعب من وطنه وجعلهم لاجئين. كما أضاف أنّه لا يمكن مقارنة المأساة الفلسطينية باللاسامية والفكر الألماني المعادي لليهود والذي اعتقد بأنه يجب إبادة هذا الشعب ومحوه عن وجه الأرض.
مع صعود النازيين الى الحكم في ألمانيا تعزز لدى التيارات المركزية في الحركة القومية الصهيونية الطرح بضرورة إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي. الحركة القومية الفلسطينية رفضت قرار التقسيم، بينما غالبية الشعب اليهودي قبلوا بقرار التقسيم مع أن حلمهم كان إنشاء دولة يهودية على كافة المناطق التي اعتبروها "أرض اسرائيل". في الحرب التي بدأت في العام 1947 وانتهت في أوائل العام 1949 مُني الفلسطينيون بهزيمة كانت نتيجتها خسارتهم لمعظم المناطق في المدن الكبرى ولمئات القرى التي دُمرت وتهجير 750 ألف فلسطيني. وعلى خراب هذه الأماكن تم إنشاء مستوطنات يهودية للقادمين الجدد والناجين من المحرقة من الدول الأوروبية.
بعد المحرقة نجح الشعب اليهودي أن يقود مصيره بنفسه، وأن ينشىء دولة خاصة به بعد أن كان تحت رحمة شعوب ودول أخرى. بينما الشعب الفلسطيني حسب ما ورد في كتاب بشير بشير وعاموس غولدبرغ اعتبر نفسه الضحية الثانوية للمحرقة، حيث دفع هذا الشعب ثمن محرقة اليهود بأجسامهم ووطنهم رغم أنهم لم يكونوا جزءًا منها. كما أن الدول الأوروبية لم تبحث عن حل لقضية الشعب اليهودي داخل الدول الأوروبية ذاتها، إنما صدّروا قضيتهم لفلسطين لتتحمل تبعات قضية هم ليسوا طرفًا فيها.
لكن السؤال المطروح هنا، هل المحرقة هي السبب المباشر أو غير المباشر الذي أدى الى نشوء دولة اسرائيل، أم لا علاقة للمحرقة بذلك. بعض المحللين يربطون بين قضية اللاجئين اليهود في أوروبا بعد المحرقة وقيام دولة اسرائيل، فالدول الأوروبية لم ترغب بعودة اللاجئين اليهود الى أراضيها مثل ألمانيا، أو على الأقل القبول بعودة قليلة بإدعاء الخوف من عودة تصاعد الحركات اللاسامية في حال عودة أعداد كبيرة من اللاجئين اليهود إليها. من جهة أخرى لم يرغب عدد كبير من يهود أوروبا القدوم الى فلسطين، لأنه بعد ما مرّ عليهم من مآسي بحثوا عن أماكن آمنة وهادئة.
إلا أنّه بعد المحرقة وبسبب مشكلة اللاجئين اليهود في أوروبا، تصاعدت حملات هجرتهم الى فلسطين، فبين السنوات 1882 حتى 1931 وصل فلسطين 187 ألف مهاجر يهودي، وبين السنوات 1932 وحتى 1938 انضم إليهم 197 ألفًا، وبين السنوات 1939 وحتى 1948 إنضم أيضًا حوالي 138 ألفًا، عليه وصلت نسبة اليهود في فلسطين في العام 1932 حوالي 18%، وفي العام 1948 وصلت نسبتهم ل 37%. لهذا توجد علاقة غير مباشرة بين المحرقة والنكبة، ففي العام 1948 تم الإعلان عن قيام دولة اسرائيل وحصول النكبة الفلسطينية. وهنا يؤكد الكاتبان أنه لا يمكن البحث في أحد هذين الموضوعين الحساسين دون البحث في الموضوع الآخر. عندما يُطلب من اليهودي أن يتحدث عن النكبة، على الفور يطالب بالحديث أيضًا عن المحرقة، وعندما يُطلب من الفلسطيني أن يتحدث عن المحرقة على الفور يطالب بالحديث عن النكبة.
في كتاب "باب الشمس" للروائي الياس خوري، خليل يقول ليونس "قل لي ماذا عملت الحركة القومية بالفتيان؟ غير المظاهرات ضد الهجرة اليهودية؟. أنا لا أدعي بأنكم لم تكونوا صادقين، لكن في الوقت ذاته، عندما انشغل النازيون بإبادة الشعب اليهودي في أوروبا، ماذا كنتم أنتم تعلمون عن العالم؟".
في هذه القطعة ينتقد الكاتب الحركة القومية الفلسطينية التي لم تعلق على الأعمال الإجرامية التي أرتكبت بحق الشعب اليهودي آنذاك، الأمر الذي كان يمكن أن يشير الى المحرقة والنكبة معًا، وهنا إشارة الى القلق من فقدان الصدق المطلق. فهنا تساوى اليهود والفلسطينيون ، فالنكبة تشير الى الصدق السياسي الفلسطيني، والمحرقة تشير الى الصدق السياسي اليهودي. الفلسطينيون شككوا بصدق أحداث المحرقة ونفوا وقوعها، إلا أن بعض الفلسطينيين طالبوا بالاعتراف بأهمية المحرقة في الذاكرة اليهودية. هذا الاعتراف من وجهة نظر فلسطينية، لم تأتِ لمنح الشرعية لما فعلته الحركة الصهيونية ودولة اسرائيل للفلسطينيين، إنما نشأت من منطلق إنساني يهيئ لفهم أفضل للتاريخ، ولإقناع الآخر بانعدام الصدق والجرم التاريخي الذي تعرض له الفلسطينيون في أعقاب النكبة.
أعتقد إن ما ورد في كتاب "باب الشمس" للروائي الياس خوري، يمكن أن يكون بمثابة القاعدة الأساسية لانطلاق البحث المشترك عن المحرقة والنكبة.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com