الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 22 / نوفمبر 23:02

قراءة في رواية عزف هادئ على أوتار الحب للدكتورة كلارا سروجي- شجراوي/ بقلم: خالدية أبو جبل

خالدية أبو جبل
نُشر: 19/05/22 18:45

تقع الرواية في 150 صفحة من الحجم الوسط. رواية "عزف هادئ على أوتار الحب" ومن عتبتها الأولى - وأقصد غلافها المزهوّ بنضارة ألوانه الفاتحة الجميلة وبأزهار وردة الأوركيد المشعّة بالسعادة و الممتلئة بالحياة والحبّ، وبتموّجات واتساع دوائر المياه بفعل انعكاس كل هذا الجمال يدغدغها بعزف هادئ - تهيئُ نفسَك لقراءة رواية رومانسية يتغلغل العشق والشوق في ثنايا حروفها وامتداد سطورها، غير أن أول لقاء لك عبر أولى صفحاتها يأخذك الى مشهد قاسٍ يثير في نفسك الشفقة والخوف وفي ذهنك التساؤلات لتدرك أنك أمام مشوار ليس بقصير - وإن كانت الرواية قصيرة نسبيا- مشوار تدخل فيه عوالم خفية، أولى خفاياه تبدأ مع بطلة الرواية نادية التي عرفناها في أولى صفحات الرواية سكرتيرة تعمل في قسم جراحة القلب، لتفاجئنا في آخر الرواية أنها تعمل عميلة سرّية. مشوار تخفُتُ فيه الأضواء أحيانا كثيرة لتجد نفسك في خضم ظلام صراعات آيدولوجية وقومية وضحايا لعمليات انتحارية وأخرى عمليات أخذ بالثأر، وأخرى ضحايا الطمع والسّاديّة والمخدّرات والاجرام، إلى جانب ثلاث قصص حب، كان الضوء فيها ساطعًا سُلّطَ على صور مختلفة للحياة ومفاهيمها، وكانت القصة الرابعة تلك التي رمتها الصدفة في بداية الرواية لتنتهي كيفما شاء لها أبطال الرواية "نادية ويوسف".
تطلّ علينا في القصة الاولى الجدة اليهودية سيمحا وزوجها يعقوب بحكاية حبّهما القوية وما آلت اليه حالهما إثر تشوّه جسم الجد وإصابته بالشلل، حيث كان أحد ضحايا تفجير لمحطة قطار في لندن. وأظن أن الكاتبة ساقت لنا هذه القصة، لتفسّر لنا سرّ القسوة التي تعاملت فيها الجدة مع والد نادية، بشكل خاص، ولتفسر لنا سرّ قسوتهم بشكل عام ، كيف يفكرون ، كيف يتصرفون ، ولماذا هُم بهذا الشكل. على أنني أتساءل هل كان ينقصهم هذا السبب لكره العربي الفلسطيني المسلم ؟ وأنهم كانوا على خير ما يرام قبل حادث التفجير ؟ أم هل أُتخذت هذه العمليات الانتحارية الورقة التي يلوحون بها لكسب التعاطف والتأييد العالمي؟! وأن الكُره ساكن في قلوبهم منذ أمد بعيد، والا بماذا نفسّر احتلالهم للبيت والهواء والتراب، وقتل الإنسان والأحلام؟
بالمقابل تطلّ الجدة العربية اعتدال بقصة حبها العذبة والجد كفاح، التي تنتهي أيضا بموت الجد كفاح مغدورا برصاصة ثأر مقيتة، لتعلم نادية لاحقا من أين أتى هذا الحزن. وهنا لا بُدّ من وقفة تساؤلية صغيرة، فقد توقعت أن أقرأ بعد تجميع قصاصات أوراق الجدة اعتدال، أن يكون الجد قد رحل ضحية رصاصة المحتل، أو أنه شّرد مع من تشردوا ، أو .. أو... لكن خيال الكاتبة بطريقة غير مباشرة ومقصودة أضاء على ما هو بشع في مجتمعنا، وما كنت لاخالفها الرأي لو جاءت هذه الإضاءة في مكان آخر من الرواية.
وهنا تأتينا قصة الحب الثالثة، قصة أم نادية اليهودية ووالدها العربي صلاح، اللذين تحررا من قيود اختلاف الديانات والقوميات واللغات، لينصهرا في الفكر الشيوعي ومبادئه الانسانية التحررية. إلّا أنّ جمود فكره المقولب الجاهز للاستعمال في بلاد غير بلادنا ، وعدم تسهيل وتذويت مبادئه بما يناسب شرقيتنا، كان من أحد أسباب تراجع مَدّه الذي كان له الأثر الطيب في فلسطين. إذن، "فالنتيجة تكون ولادة حكايتين متعاكستين، يبدأ بعدها جدال لا يتوقف حول أيّ الحكايتين منهما هي الصادقة. ويستمر الخصام والاقتتال سنوات وسنوات طويلة، ويُنسى البشر العاديون الذين لا يطلبون سوى أن يعيشوا حياتهم القصيرة بدون أن تُنزف الدماء وتهدر الارواح."ص52 ... لتكون نادية ابنة هذا الضياع والصراع العجيب، ابنة الجيل الباحث عن هوية، ابنة العصر التكنولوجي الذي حرّرها من معتقدات خرافية كثيرة، تنفض عن كاهلها الألم والحقد الذي عاشته سيمحا اليهودية، وحزن اعتدال وتعصّب أبويها لمبادئ الحزب الشيوعي، لتجد لنفسها دينا خاصا تدين به للانسانية فوق كلّ دين . هذه الفتاة التي ترعرت وقد شربت من الحرية ما يعينها على اتخاذ قراراتها، تشعل قلبها نظرة لشاب وسيم تلتقيه بأضعف حالاته مسلوب الإرادة والقوة، لتتبع قلبها وتقرر إنقاذه والتمسك به، وتبدأ أولى نغمات عزفها الهادئ؛ يوسف الشاب الوحيد الفاعل في الرواية الذي عاش ضياع الغربة وتبع وَهْم حُبّ عاد به إلى وطن ظنّه ملاذه، فإذا به يناصبه العداء... وقد يكون في هذا إيحاء ذكي لأسباب هجرة شبابنا، الذين ضاقت البلاد بأحلامهم، لولا ظهور نادية في حياته كالجنيّة الساحرة، تجمع خيوطه المبعثرة ، وتعيد صقل نفسه المهترئة، ليقف بعد صراع مع الآلام والأوهام، صلبًا على عتبة الاختيار ما بين الوطن والغربة، لينتصر الوطن بكل هيبته... وتكون ناديه قد أتمّت عزف سيمفونيتها.
رواية " عزف هادئ على أوتار الحُب" استقت سردها من واقع تجري أحداثه أمام أنظارنا، وظفتها الكاتبة لتخدم أهدافًا معاصرةً بشكل غير مباشر. أذكر منها استقلالية المرأة وتحررها، الإيمان بالانسانية دينًا فوق كل الديانات، الحب هو الهوية الأهم للزواج، الوطن هو الأغنية التي تخترق الغيم لتمطر حبًّا ينمو في قلوب أبنائه. ولم يأتِ إختيار حيفا مكانا للرواية إلا لرمزيتها ومكانتها التاريخية الشاهدة على جرح فلسطين، والمتربعة على عرش الجمال ملكة، إنها عروس فلسطين.
جعلت الكاتبة من النساء في روايتها ، رواة لروايتها (نادية، اعتدال، سيمحا) مما أثّر على عذوبة اللغة وقوة تأثيرها. ولا أتجاهل دور شخصية يوسف الذي أظهر عمقا فلسفيًا في سرده؛ أبى أن يُغادرنا إلا والأوركيد قد أزهر بسحر بياضه في نفسه حبًّا وإرادة وقرارًا، كما انعكاس جماله على وجه الماء، بعد أن كان لقاؤنا الأول به ضعيفًا مهزومًا. وهنا تظهر مهارة الكاتبة السرديّة وإغلاقها للدائرة بذكاء لافت، وجميل.
سُردت الرواية بلغة جميلة شاعرية العذوبة والخيال. إن إتّباع الكاتبة أسلوب القفز من قصة لقصة بدا غير مألوف في البداية، الا أنه سرعان ما يعتاد القارئ عليه، بل يُشعره بالمتعة الحقيقية.
أبارك للدكتورة كلارا سروجي- شجراوي روايتها وأرجو لها المزيد من العطاء والنجاح، وجزيل شكري لكرم الإهداء خالديه أبو جبل طرعان ، الجليل الفلسطيني 18أيار 2022
 

مقالات متعلقة