في هذه المقالة القصيرة، من الصعب أن نناقش على نطاق واسع كتاب "بدو النقب وبئر السبع: 100 عام من السياسة والنضال" لمؤلفه الدكتور منصور النصاصرة، هذا فضلًا أن هذا الكتاب نوقش سابقًا من قِبل كوكبة من الباحثين والمختصين في هذا المجال، وأشيد به أيضًا من قِبل العديد من الباحثين والعلماء البارزين- كما يظهر في الوجه الخلفي للكتاب- بتناول المؤلف لمسالة قضية النقب عبر قرن من الزمان من خلال دراسة نقدية قيّمة ووثيقة أرشيفية يقدّم فيها المؤلف نظرة تاريخية وسياسية واقتصادية حول عرب النقب وقضاء بئر السبع بَدءًا من نهاية الحقبة العثمانية في جنوب فلسطين وبناء مدينة بئر السبع مرورًا بالفترة الاستعمارية البريطانية في المنطقة، ثم إلى عام النكبة وحرب 1948 ووصولًا الى فترة الحكم العسكري الإسرائيلي حتى الوضع الراهن الذي ما زالت فيه قضية النقب تشكل بوصلة الصراع بين الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصلانيين وبين المؤسسة الإسرائيلية بكل أدواتها الاستعمارية.
يضيء لنا المؤلف جوانب مهمة في كتابه القيّم الذي يشتمل على 519 صفحة موزعة على عدة مقدمات وتمهيدات و11 فصلًا وقائمة بالمصادر والكشاف الموضوعي والملاحق المهمة، بيدَ أنه من الأهمية الوقوف عند ما أورده الدكتور نصاصرة في مقدمة الكتاب صفحة (19) إذ يقول: "منذ أن قدّم الباحث الفلسطيني عارف العارف- الذي عمل موظفًا حكوميًا في عهد الانتداب- توثيقًا تاريخيًا مهما لبعض جوانب التاريخ الاجتماعي لبدو النقب وبئر السبع في ظل حقبة الانتداب البريطاني، لم تُبذل أي جهود حقيقة لتوثيق المواقف التاريخية النضالية لبدو النقب وقضاء بئر السبع ودراستها".
إضاءة المؤلف المهمة جدًا على هذا الجانب تحديدًا تعكس واقع الإنتاج المعرفي والعلمي المُقل جدا حول منطقة النقب وبئر السبع، وهذا ما يقوله صراحة الدكتور منصور في صفحة (27): "هناك عدد قليل من الدراسات التي تتناول تاريخ بدو النقب ونضالهم؛ خصوصًا في فترة الحكم العسكري (1948-1967)". كما ويبين أن "الأدبيات التي تتناول قضايا بدو النقب، وبئر السبع محدودة نوعا ما، وتكشف عن فجوات علمية كبيرة، وهو ما يشير إلى أن تاريخهم وسياساتهم لم يكونا محلّ اهتمام، حتى في الأدبيات الفلسطينية والعربية"، كما جاء في صفحة (20). وذلك كله رغم تطور الإنتاج المعرفي بشأن الفلسطينيّين في الداخل في العقود الأخيرة بشكل كبير جدًا.
الدكتور النصاصرة محق جدًا في هذا الجانب خاصّة وأن كتابه هذا صدر باللغة الإنجليزية في نهاية عام 2017 بعد أن استغرق تأليفه سبع سنوات وذلك قبل ترجمته إلى اللغة العربية في وقت لاحق. وملاحظته هذه أتت قبل أن يصدر كتاب "العراقيب: التاريخ، الأرض، الإنسان" للبروفسيور إبراهيم أبو جابر في عام 2018، وقبل أن يصدر أيضًا الكتاب الضخم "الأراضي المُفرغة جغرافيا قانونيا لحقوق البدو في النقب" الذي صدر عام 2020 باللغة الإنجليزية من تأليف ثلاثة باحثين؛ أحمد أمارة، الكساندر كيدار، أورن يفتحيل، وترجم لاحقًا إلى اللغة العربية.
في إطار الحديث عن هذيْن الكتابيْن المذكوريْن، فإن القارئ المتفحص والمهتم يجد أن هناك معلومات متشابهة ومتقاربة إلى حد ما بينهما وبين القضايا والمراحل التي تناولهما الدكتور منصور في كتابه، ومن الأمثلة على ذلك: النقب وقضاء بئر السبع في مرحلة العهد العثماني، فإن كتاب "الأراضي المُفرغة جغرافيا قانونيا لحقوق البدو في النقب" في الفصل الذي كتبه تحديدًا الدكتور أحمد أماره يسهب كثيرًا في الحديث عن هذه المرحلة، كما أن كتاب "العراقيب: التاريخ، الأرض، الإنسان" يُسهب البروفسور إبراهيم أبو جابر في الحديث عن أسماء وتفاصيل وتاريخ العشائر البدوية التي سكنت منطقة بئر السبع جنوب فلسطين، غير أن الدكتور النصاصرة يسلط الضوء أكثر في كتابه "بدو النقب وبئر السبع: 100 عام من السياسة والنضال" في مرحلة العهد العثماني وما تلاها من مرحلة الاستعمار البريطاني ومشروع الدولة اليهودية ومنظومة الحكم العسكري حتى الوقت الراهن، يسلط الضوء على أساليب النضال اليومية والشعبية التي انتهجتها عشائر بدو النقب وبئر السبع في مجال نضال الشعوب الأصلانية ضد المنظومة الاستيطانية.
أما الجانب الهام جدًا الذي يجب علينا نحن كقرّاء ومهتمين بهذه الوثيقة التاريخية التي طُرحت فيها محاور كثيرة عن نضال عرب النقب على مدار 100 عام، أن نتوقف كثيرًا عند هذا الكتاب القيّم الذي استغرق تأليفه سبع سنوات، والذي لم يكن ليخرج إلى النور وبهذه القيمة الإنتاجية العلمية والمعرفية لولا الجهد البحثي العميق المبذول في الكتاب الذي قام به الدكتور منصور النصاصرة في السفر والترحال والغياب عن الأهل الوطن ليبحث عن الحقيقة وليحفظ للأجيال الحاضرة والقادمة ما جمعه من شتات الأرشيفات النادرة في تركيا وبريطانيا وإيرلندا الشمالية والقدس وبئر السبع، إلى جانب الجهد الكبير الذي بذله في العمل البحث الميداني من خلال تسجيل الروايات النقباوية النادرة، كما ضم الكتاب بين طياته العديد من المقابلات الشفوية من أصوات بدوية من النقب ومن الأردن وحتى أنه أجرى مقابلات شفوية مع ضباط وجنرالات عسكرية ومسؤولين بريطانيين وإسرائيليين وفلسطينيين.
أخيرا، فإن الدكتور منصور النصاصرة أستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية في قسم السياسة والحكم، جامعة بن غوريون. قطن لسنوات عدة في لندن وأكسفورد واكستر وعاد في السنوات الأخيرة ليسكن في القدس والنقب. صدرت له دراسات عدة مؤخرا عن الشيخ جراح ومنظومة المدارس في القدس واتفاقيات أوسلو والحركات الإسلامية وعن المدن في العالم العربي. وحصل كتابه "بدو النقب وبئر السبع: 100 عام من السياسة والنضال"، مؤخرًا، على جائزة "المبدع الفلسطيني" من صندوق التعليم العالي القطري على اسم المرحومين أحمد مصطفى شريم ومريم سليمان.
د. منصور النصاصرة من مواليد قضاء بئر السبع، وله علاقة تاريخية مع قرية تل الملح المهجرة التي تم تهجير غالبية سكانها عندما تم توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع مصر عام 1978. فبموجب بند في الاتفاقية سمي "قانون السلام" تم تهجير 15000 نسمة من أهل القرية والتي ضمت عشائر عديدة منها أهل القرية من النصاصرة وأبو عرار والزبارقة والعمور والصرايعة وغيرهم الكثير إلى كسيفة وعرعرة ورهط والطيبة وقلنسوة واللد والرملة وكفر قاسم. ثم من دفع فاتورة اتفاقية كامب ديفيد مع مصر كانت العشائر المحلية التي امتلكت أراضي تل الملح ليبنى على أنقاض القرية مطار "نيفاتيم العسكري". في هذه القرية التاريخية كانت هناك آبار المياه التاريخية والمدرسة ومحطة الشرطة البريطانية ومحطة القمح ومعالم تاريخية عديدة ما زالت تشير إلى تاريخ عريق للقرية.