بداية اسمحوا لي أن أحيّي من صمّم الدعوة لهذه الندوة حين وصف غسان "عميد أدب المقاومة الأديب الفلسطيني العكاوي غسان كنفاني" وحتمًا أثلج صدر غسان الذي ما زال، حتمًا، يفتخر بعكّاويّته.
كتب غسّان كنفاني في مسرحيّة الباب أنّه لا بديل عن جنّة فلسطين وكل محاولة لبناء جنّة بديلة في المنفى ستبوء بالفشل: "لن أرتدّ حتّى أزرع في الأرض جنّتي... أو أنتزع من السماء جنّتها... أو أموت، أو نموت معًا"، لم يحقّق حلم العودة في حياته فأعيد بنصبٍ تذكاريّ في مسقط رأسه... في عكا. وليته لم يعد تلك العودة المبتورة الموءودة!
تمّت إزالة النصب، تلبية لنزوة وزير الداخليّة الإسرائيلي آنذاك أرييه درعي الذي توجّه بدوره إلى لجنة أمناء الوقف الإسلاميّ لإزالة النصب التذكاريّ بحجّة أنّ غسان "مخرّب وينتمي للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين"، رغم اغتياله يوم 08.07.1972!!
هو صوت غسّان وقلمه، ما زال بُعبُعًا يُقلق نومهم ولا يفارق أحلامهم!"
في كتابه "رجال في الشمس"-رحلة ثلاثة رجال فلسطينيين إلى الكويت وماتوا في الصهريج كتب مقولته السرمديّة: "لماذا لم يقرعوا جدار الخزّان"؟ سؤال ما زال يتداول على ألسنة جميعنا ليل نهار.
في كتابه الأحبّ إلى قلبي "عائد إلى حيفا" نجد غسّان الذي امتازت نصوصه بسهولتها الممتنعة وبصورِه المستقاة من الواقع المعيش، لا يجمّلها ولا يضيف إليها مساحيق الكتابة، بل يتركها كما هي. شخوصه قاسية، فجّة، ذات واقعيّة تجعل القارئ يقول: "هذا الشخص أنا أعرفه، أنا متأكد أنني لرأيته من قبل". وهكذا تصل الرسالة الكنفانيّة.
تناول تجربة جرح الوطن وعذاب الفلسطيني الذي تشرّد من بيته ووطنه وعانى القهر والحرمان، إلا أنه يحمل أمل العودة إلى ذاك الوطن الساكن في وجدانه.
أثار غسّان تساؤلات كثيرة حول التهجير والتشريد والغربة والحنين والوطن والإنسان والإنسانية حين يصير الإنسان قضية، وحول العودة وحق العودة، وما هو السبب والداعي لزيارة صفية وسعيد لحيفا وعلاقته بالعودة؟ هل فلسطين استعادة للذكريات أم هي صناعة المستقبل؟
بعد "زيارته" لحيفا يعيد سعيد النظر فيرجو أن يكون خالد قد التحق أثناء غياب والديه بركب المقاومة وهذه رؤية غسان كنفاني الواضحة ولا غبار عليها بأن ما أخذ بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة لتكون العودة شريفة، بعزّ وكرامة وبدون مذلّة ومهانة.
أسمع هنا وهناك تساؤلات: "كمان مرّة كنفاني؟ بكفّي تقديس وتأليه!" ولكن الجواب على هذه الأسئلة وجدته في لقاءاتي مع "أسرى يكتبون" الذين ما زالوا يرونه البوصلة والمنارة نحو فلسطين؛
وصلتني رسالة من الصديق الأسير منذر مفلح عنونَها "من حيفا وغسان إلى حيفا وحسن... "علاقة جدلية" كتب فيها: "يسارع كميل، وقلبه ينبض، وملامح وجهه تكاد تتقاسم فرحة العودة، يطلبني، ليتقاسم معي كعادته فرحته، بل ليقاسمني سر عودتنا إلى حيفا، يصرخ مبتهجًا: "إنه حسن، ابن حيفا، في وادي النسناس وهذه أم إلياس".
حسن صانع وطننا الافتراضي، إن حيفا تشكل نقطة التقاء القلب والروح، هي وطنٌ صنعه حسن في عالمنا الافتراضي جمع فيه ما بين الأمهات والأبناء، أم إلياس، أم عسكر، والأبناء كميل، منذر، ثائر، نادر، حكمت والآخرين، وما بين وصايا الشهداء والطريق إليها، ما بين الأزمنة والأمكنة، حتمًا سيعود هذا الوطن حين يحدث اللقاء حقًا مع خارطة الواقع، وحتمًا سيكون حسن هو من سيخرج المشهد الأخير، معلنًا انتصار حيفا، الوطن باللقاء قريبًا هناك تحت راية الحرية.
فإلى أن تهوي إلى حيفا من جبل الكرمل، أو نعلو إليها مع سراب الفجر، ستبقى حيفا، وحسن، سنديانًا كحقيقة راسخة في عمق رواية الآخر الذي قهره حسن برواية "حيفا الحديدية" عبر العالم الافتراضي، لنحتل المشهد، ويعيدنا من الهامش الذي أراده لنا الآخرون، كي يحتل صدر روايتهم شاء من شاء وأبى من أبى.
تزامنًا مع وصول رسالة منذر ونشرها استلمت كتاب فراس حج محمد "استعادة غسان كنفاني" (192 صفحة، إصدار الرعاة للدراسات والنشر- رام الله وجسور ثقافية للنشر والتوزيع-عمان) فتساءلت بيني وبيني: "هل يجترّ فراس ما كُتب وما قيل عن غسّان مكرّرًا فرسان "النقل واللصق" التي شاعت في زمن العولمة والقرصنة والغوغلة؟
قرأته مثنى وثلاثًا ورباعًا ووجدته مغايرًا لما قرأته وسمعته وغوغلته عن غسّان؛ وجدته يستعيد غسّان وكأنّي به حيّ يُرزق، يتمختر بيننا بريشته الواثقة اللاسعة، والكيبورد تحت إبطِه، يتأمل المشهد اليومي "سياسياً وثقافياً واجتماعياً في الحياة الفلسطينية وطناً وشتاتاً" كما جاء في التظهير.
ناقش فراس تحت عنوان "شيء عن الثقافة والمثقفين" علاقة المثقف الفلسطيني والعربي بالقضايا الراهنة، وخاصة فيما يتعلق بالتطبيع، وتدجين المثقفين، فوجدتني أتفق معه وغسان القائل في التطبيع: كم يخسر الفرد من هويته من خلال التطبيع! وهذه نبوءة غسّان سنين طويلة قبل التطبيع الأوسلويّ والخليجي والعربي الراهن، وكأنّي به شاهد على عصره سبق أوانه بعقود من الزمن.
حاول فراس تقصّي واقتفاء أثر مواقف غسان كنفاني وشخصيته من خلال كتاباته في حينه وربطها مع واقعنا اليومي الرديء، مواقفه السياسية والثقافية آنذاك مع الوضع الراهن وتطورات القضية الفلسطينية، وكأنّي به ما زال يقاوم كل المشاريع الصهيونية التي تسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية، بقلمه الأشرس من البارود!
سلّط غسان كنفاني الأضواء على الأدب الفلسطيني المقاوم وروّاده وعلى أقلام واعدة في بداياتها ومسك بيدها موجّهًا، وها هو فراس حج محمد يتناول دوره النقديّ ومنهجه كما تجلّى في كتابه "فارس فارس"، لاحقًا أحمد دحبور وعلى الخليلي.
خصص الكاتب الفصل الثالث من كتابه ليتحدث عن علاقته مع غسان كنفاني، من خلال العلاقة بكتبه وقراءتها والتعلم من مواقفه الشجاعة ككاتب ومثقف ومناضل، ليختم كتابه مؤكدًا على علاقته وارتباطه الوجداني به كشخصية أثّرت فيه كثيراً كما أثّرت في غيره.
غاب عن الكتاب مصمّم غلافه، بحبشتُ ووجدت أنّه بريشة الفنّانة ميسم فراس التي لم تأخذ حقّها، وغساّن كان يصرّ على أن يأخذ كلّ ذي حقّ حقّه، أكان محرّرًا أم منقّحًا أم منضّدا أم صاحب غلاف!!
آن الأوان لتخليد ذكرى أبطال الحريّة دون خوف أو وجل أو تأتأة، ونقرع جدار الخزّان علّنا ننقذ أبطال غسّان في رجال في الشمس.
نعم، صدق غسان كنفاني حين قال مقولته الأبديّة: "ليس المهمّ أن يموت أحدنا، المهمّ أن تستمرّوا"!
كم كان غسّان محظوظًا لمغادرته عالمنا قبل سيطرة الشبكة العنكبوتيّة على مشهدنا الثقافي، سخر غسّان من الثقافة الموسميّة، المستأجَرة، السلعة وأطلق عليها "ثقافة التكسي" حين وصف بعض المنابر كسيارّة التكسي -من يدفع يركب!!! وكأنّي به ينظر لهذا المشهد الكفكائيّ ويبتسم ساخرًا.
غيابك يا غسّان يشتدّ حضورًا!
***مداخلتي في ندوة اليوم السابع المقدسية، بوم الخميس 07.07.2022 (ندوة بمناسبة الذكرى الخمسين لاستشهاد عميد أدب المقاومة غسان كنفاني)