تذكّرت هذه الأغنية عندما فتّشت عن عنوان لهذا المقال. اعتقد أنّها تعكس حالة قطاعات واسعة من مجتمعنا إلى حدّ بعيد. لا تسألني من هي حانا ومانا. لا أعرف. كنت أسمع الأغنية خلال أيّام الصّبا وأحبّها. وهذا ما أذكره فقط.
شاهدت استفتاءات عديدة، كذلك سمعت تعليقات متنوّعة وما هبّ ودبّ من ردود فعل شخصيّة، تتناول مواقف جماهير الأقلّيّة العربيّة الفلسطينيّة من الانتخابات القادمة. كنت أستغربها أحيانًا، وتنتابني الحيرة أحيانًا أخرى، وأتساءل كيف تفكّر الأغلبيّة العظمى رغم أنّي لا أنتمي لحزب معيّن.
تذكّرني التّعليقات وردود الفعل الشّفهية بصدفة، حينما كنت أحضّر لرسالة الدّكتوراه خلال السّبعينيّات من القرن الماضي في المانيا الغربية آنذاك. كنت جالسًا مع أحد معارفي من إنجلترا، وقد انضم إلينا طالب ألمانيّ، وأردت التّعريف، قلت للأمانيّ: هذا جورج إنجليزيّ. انتفض "الإنجليزيّ" وقال: ماذا تقول؟ أنا لست إنجليزيًا، أنا اسكتلنديّ.
ربما تجدر الإشارة أنّ اتّحاد إنجلترا وإسكتلاندا يرجع إلى عام 1707. مع ذلك، عرّف نفسه إسكتلنديًّا. لم تكن دعوات الانفصال خلال السّبعينيّات من القرن الماضي ذات شأن يذكر، وكان "الإسكتلنديّ" مواطنًا عاديًا. والاختلاف بين حالة الإسكتلنديّين وحالة الأقلّيّة العربيّة الفلسطينيّة جذريّ، وليس موضوع مقارنة. رغم ذلك أتساءل أين نحن وأين غيرنا؟
تعكس مواسم الانتخابات صورًا لمدى تجانس و/أو تنافر وضع الأقلّيّة العربيّة الفلسطينيّة في إسرائيل، ومظاهر مدى وعيها بذاتها كأقلّيّة، دار الجدل سابقًا بين المشاركين والممتنعين. وزاد الانشقاق داخل القائمة المشتركة، من حدّة الجدل، بحيث أصبح تناكفًا وتناطحًا كما يعرف الجميع.
لم يشكّل الانقسام مفاجأة لي شخصيًّا. ومن وجهة نظري فإنّ نهج القائمة العربيّة الموحّدة يشكّل استمرارًا معيّنًا لنهج تيّارات سياسيّة بعد 1948، الّتي قبلت بنتائج الهزيمة وآثرت التّعايش معها. الشّيء الوحيد الّذي أعجز عن فهمه هو كيف توفّق قيادة الموحّدة، وبالذّات الدّكتور عبّاس، بين العديد من الثّوابت الإسلاميّة وبين انتهازيّتها، كما تنعكس في الممارسة السّياسيّة، شيء لا أستطيع فهمه.
المأساة الكبرى لهذا التّطور أنّ ردود الفعل المنتشرة في الشّارع والّتي تشير إلى اقتناعها بعدم المشاركة في الانتخابات المقبلة، أصبحت ظاهرة عامّة وتقترب من الافتخار بها.
العوامل والأسباب الموضوعية لهذا التّشرذم والّتي أدّت إلى وضع كهذا، تصلح كموضوع لرسالة ماجستير، وربّما دكتوراة في العلوم السّياسيّة.
جلّ التّبريرات والنّقد حرجة للمشتركة: تكتفي المشتركة بالشّعارات، الرّكض على الكراسي، "شو عملوا"، إقصاء الآخرين، أصبحت متحجّرة وتفتقر إلى وجوه جديدة، كأنّ المسألة مسألة وجوه. وفي تعليقات لأحد النّاشطين البارزين، نحن نرفض دائمًا، ويستشهد بقرار التّقسيم 1947. (ملاحظة قصيرة لحضرته: قَبِل بن غوريون قرار التّقسيم لأجل السّماح بالهجرة للنّاجين من المحرقة النّازية بصورة حرّة، والأهمّ من ذلك كنقطة انطلاق لإستراتيجيّات مستقبليّة. كان مضطرًّا لا رغبة بقرار لتقسيم كحلّ نهائيّ. قضيت سنوات عديدة في دراسة مشكلة يهود ألمانيا منذ 1933 في إطار دراسة أوسع). لا أعني بذلك أنّ هذه التّبريرات عارية عن الصّحّة تمامًا. الأحكام التّقريريّة لا تتجاوز كونها أحكامًا تقريريّة. هي نتيجة لعوامل موضوعيّة أكثر عمقًا ومتشابكة مع بعضها البعض.
تختلف ظاهرة عدم المشاركة في الانتخابات في الوسط اليهوديّ عن مثيلتها في الوسط العربيّ اختلافًا جذريًّا: الذّاتيّة والتّفتيش للوصول إلى الذّاتيّة كأقلّيّة عربيّة فلسطينيّة. وبشكل عامّ يمكن القول إنّ المجتمعات والشّعوب الضّعيفة ترى الوحدة أجدى سبيل لتأكيد مدى ترابطها وقوّتها. هذا ينطبق على الأقلّيّة العربيّة الفلسطينيّة أيضًا، من وجهة نظري على الأقل. أحدث الانقسام واقعًا جديدًا وأسهم في انتشار هشيم اللّامبالاة والإحباط. ومؤشّرات الانقسام داخل المشتركة بعد انفصال الموحّدة، سيسكب الزّيت على نار اللّامبالاة والإحباط. لا تقصد الأغلبيّة السّاحقة من النائين عن المشاركة في الانتخابات، تقوية تمثيل الأحزاب الصّهيونيّة واليهوديّة، وخاصّة الفاشيّة منها، لكن عدم المشاركة يسهم في زيادة تمثيل الأحزاب الكبيرة كاللّيكود و "يش عتيد" عمليًّا بشكل مباشر. واعتقد أنّ هذا ليس رغبتها وهدفها.
أثبتت نتائج الانتخابات السّابقة فشل صدارة الخطاب السّياسيّ الوطنيّ والقوميّ وتهميش الخطاب الاجتماعيّ المحلّيّ، في حالة المشتركة، كذلك بؤس وضحالة إنجاز المساومة السّرّيّة والعلنيّة، في حالة الموحّدة. إنّ قصر عمر الحكومة ليس عذرًا كافيًا.
الأجدى للأحزاب العربيّة ترك خطاب التّناكف والتّناطح بينهما، وتوجيه الخطاب لجماهير اللّامبالين والحائرين والنّاقمين من حدوث الانقسام.
ما العمل وكيف؟
هذه مهنة رجال السّياسة، وليست السّياسة مهنتي.
عبد الرّحمان عبد الغني