ثماني سنوات مضت كانت كفيلة تماما لإحداث تغيير ما على مستوى الوعي، ثماني سنوات لإرهاب وقتل وتشريد وترويع وهدم بيوت وعنصرية وتمييز، لكنها أيضا ثماني سنوات من المقاومة والكفاح والنّضال وتعزيز الكرامة العربية وتسجيل الانتصارات على جبهة التاريخ..
ساح السّنوات تلك كانت مجال احتراب ما بين ثقافتين، ثقافة المقاومة والصّمود وثقافة " الاعتدال " الانبطاحيّة تروّج للخنوع والتّبعيّة، فالدبابة الأمريكية نهضت تقارعها بندقية المقاوم العراقيّ الثائرة، وإله الحرب عطلت نشوته بالدّم في العام 2000 انتفاضة ثالثة تعلن رفضا لحياة الذلّ والهوان، تدافع عن قدسية المكان والإنسان، ومن الجنوب اللبناني المرابط انطلقت صرخة ثائر المرة تلو المرة فتغيرت مضامين العناوين من معاني الهزيمة إلى معاني الانتصار، فحلّ زمن الانتصارات وولّى زمن الهزائم..
بذار الوعي الرّفضويّ هذه الأيّام، تينع غراسا برعميّة من باطن أتربة الوعي النّضاليّ، محاربة أمطارا حمضيّة وتلوثا بيئيّا من صنيع مصانع ما يسمّى بـ " قوى الاعتدال " في العالم العربيّ، والناعتين أنفسهم " ليبيراليين جددا " والذّائدين عن مشروع العولمة الأمريكية والهاتفين باسم التعايش المشترك والسلام العادل والشّامل، والمتشبثين بخرقة " المبادرة العربية السعودية للسلام "، لكن دون أن يحدّد أحد منهما مضامين تلك الكلمات الجميلة وأهدافها السّياسيّة..
أجل عينيك في الميادين والشوارع من المحيط إلى الخليج، أجلها، تبصر عروبة تتخابط موجا في حالة مدّ دونما جزر، عروبة رفض وتحدّ وغليان.. تتساءل عن جهود سياسات الترويع والقمع والتجويع والتجهيل في العالم العربيّ، فتكاد تعتقد جازما أنها سقطت وغرقت في بحر النّهوض لوعي ظنّ ميتا غائبا..
لا تذهب بعيدا، لا تحلق أعلى مما ينبغي، فلتظلّ هنا في مدننا وقرانا العربية في الداخل الفلسطيني المحتلّ، لتلقي بعينيك في ملامح وجوه أهلنا الصامدين، لتصغي إلى ملاحم الكلام على ألسنة جدّاتنا وشبابنا، ألا تبصر ثقافة ناهضة غير تلك التي حاول البعض الترويج لها وترسيخها عبر عقود؟؟!! ألا تشهد اندحارا لثقافة وسلوك المتشائل، لمعتقد ومبدء أوسلو المتنازل دونما ثمن، ألا تر سقوطا تاما لـ " بعيد استقلال بلادي غرّد الطّير الشّادي.. "، ألست معنيا بأن تعرف أين هم " العرب الطّيبين "؟؟!!.. الشارع يجيبك: وداعا لعصر كنت فيه ذليلا وأهلا بزمن الرفض والإباء والتحدي..
خطاب الرفض القومي الوطني فرض نفسه عنيفا قويا في السنوات الثماني الأخيرة، روح العروبة الأبية صار يسكن كلّ واحد منّا شيئ منها، لتنتقل من مرحلة الفطرة الإنسانية القومية إلى مرحلة القومية الإطار الذي يروم مشروعا.. وفي هذه الأيام صار الخطاب العروبيّ الوطنيّ أقوى وأكثر حضورا وأكبر تأثيرا، تدرك ذلك خاصة عندما تعاين القوى التي تبنت لعقود الفكر الشيوعي الأممي كيف أن قطاعا واسعا عظيما منها صار يتحدث بروح ووعي ومصطلحات وثقافة العروبة المقاومة، العروبة المشروع..
حاول أن تستقبل معطيات أحداث غزة الأخيرة وتأثيرها على الشارع العربيّ الكبير عامّة، وشارعنا الصغير هنا في الداخل الفلسطيني خاصّة، لا بل لتعد في قراءتك إلى سنوات عشر سابقة، لتقرأ فعل الحركات الطلابية في الجامعات والكليات، لتبصر حراك مؤسسات المجتمع المدني لدينا وخطابها، لتصغي إلى مضامين خطاب بعض الشخصيات الأساس في التيارين الإسلاميّ والشيوعي، لتصغي إلى تعليقات الشباب في المقاهي وربات البيوت، إلى خروج الناس إلى الشوارع، إلى مضامين هتافاتهم وما يرفعون من شعارات، تجدها قد صارت تنتفض عروبة ووطنية وتحدّ، وتميل بعنف إلى خطاب التيار القومي في حركتنا الوطنية، والذي يمثله رسميا وفي إطار حزبيّ فكر عزمي بشارة..
لا تقل لي إنه أمر طبيعي وعادي بالنسبة لديك أن تخرج في إحدى قرانا العربية خمس مظاهرات من أجل غزّة خلال أيام خمسة، ولا تحاول أن تقنع أحدا أنه من الطبيعي والعاديّ أيضا، خروج الناس نساء وشيبا وشبانا إلى الشوارع، رغم البرد والأمطار، في وقت قياسي دون توجّه من أحد ولا طلب من أحد..
حاول أن تدخل إلى مواقع الإنترنيت، إلى المنتديات والمجموعات الإلكترونية، إلى صفحات الفايس بوك، أن تشاهد الصور وأفلام الفيديو والتعليقات والرسائل الإلكترونية، إن كنت غير معتاد عليها ولا ترتادها إلا نادرا، حينها ستظن أنك أمام ثورة، ثورة من أجل غزة، ثورة عروبية وطنية مادتها الشباب وجمهورها الهدف الأنا العربيّ والعالم، كلّ العالم، والله جلّ وعلا..
من رهط إلى كفر قاسم إلى باقة الغربيّة، إلى أم الفحم، يافا، حيفا، عكا، سخنين، الناصرة، شفاعمرو، كفرمندا، عيلبون، كوكب، فسوطة، خرج الناس إلى الشوارع بعشرات بل وبمئات الآلاف ملبين نداء غزة العربيّ الفلسطينيّ، بصوت واحد وهمة واحدة، عربية وطنية فلسطينية، دون تخطيط من أحد ولا تحريض من أحد ولا طلب من أحد..
قد تتحول الدعوات لإطلاق انتفاضة ثالثة إلى حقيقة تترجم نفسها فعلا وسلوكا على أرض الواقع، وقد لا تتطور الأمور إلى ذلك الحدّ، ولكن ما هو أكيد بالنسبة لديّ وواضح بيّن لا ريب فيه، هو أننا الآن نحيا حقا انتفاضة أهمّ وأرسخ وأعظم من أيّ انتفاضة، انتفاضة هي التي ستحسم إلى صالح من سيكون الموقف أخيرا، هي انتفاضة الوعي، انتفاضة وعي عروبي وطنيّ، لا مكان فيه لتفوق طائفة على طائفة أو لعشيرة على عشيرة أو لفئة على فئة..
إله الحرب الآن يبارك عصافيره المحلقة في سماء غزة الصافية تكدّر أرضها وتصيّرها دماء ودخانا ودمارا، يبارك أبطاله المجنحين، نخبة النخبة العسكرية الاسرائيلية المثقفة اللبقة المتعلمة الذكية، التي تصطفى خصيصا لتستوطن سماء تجعلها تمطر حقدا وخرابا فوق رؤوس الأبرياء..
إله الحرب يعرف أنّ حملته " الدّراكوليّة " خاسرة، أنّ عدوانه الوحشيّ فاشل حتى من قبل خروجه إليه، فهو يخرج لردّ اعتبار وتعزيز كرامة قوميّة إسرائيليّة مرّغ رأسها بتراب جنوب لبنان، وهو يعرف أنّه وإن حقّق بالنسف والقصف والخسف شيئا من هدف يرجوه، ولن يحقّق، فسيظلّ خاسرا، وأنّ أبناءه المجنّحين المحلّقين في سماء غزّة بطولتهم زائفة، لأنّ البطولة تقتضي أن يجابه البطل منافسا يوازيه أو يتفوق عليه قوة وجبروتا وعتادا وبأسا ومنعة وتدجيجا.. وهذا ما لا يحدث في غزّة، غزّة الظاهرة، ظاهرة المقاومة في فلسطين والعراق وأفغانستان ولبنان، إذ يكابر الضّعيف البسيط لينتصر على الجراح وعلى أباطرة الدّمار.. بل وليبتكر من اللاشيئ أداة مقاومة وفعل مقاومة، وذلك بفعل الوعي الوطني العروبي الفدائي..
هي انتفاضة ثالثة، هي انتفاضة الوعي العربي، هي انتفاضة الحقّ، وحتما ستنتصر..