السؤال عن جدوى تقديم دولة جنوب أفريقيا دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية على خلفية تورطها في أعمال إبادة جماعية ضد الفلسطينيين بقطاع غزة، سؤال شرعي جدًا وفي غاية الأهمية، خاصّة وأن كل من يتبادر إلى ذهنه هذا السؤال لا بدّ أن يكون قد استحضر أمامه ما جرى وما يجري على أرض غزة من محاولات التطهير العرقي والإبادة الجماعية والدمار والقتل والحصار الذي يمنع دخول الوقود والغذاء والدواء ويقطع الماء والكهرباء في هذه الحرب التي قاربت على الـ 100 يوم. جرى ويجري ذلك كله، في ظل عدم اتخاذ أي قرار ذي جدوى بشأن حرب الإبادة الجماعية على غزة من قِبل المجتمع الدولي المنحاز والدول العربية التي أقل ما يمكن أن يُقال حولها إنها عاجزة، وفي ظل عجز القانون الدولي الذي أصبح مجرد "نكتة" أو "كذبة"، بحسب وصف الدكتور أحمد أمارة المختص في مجال حقوق الإنسان والمرافعة الدولية، والذي يقول إن "المسافة بين ما يقوله القانون الدولي وبين فعاليته شاسعة، وبين المنصوص عليه والمفعول به أكبر".
وبالرغم من أن النظام الدولي بنيته فاسدة وجائرة وهي أساس الأزمات الإنسانية التي تشهدها مناطق العالم، وبالرغم أيضًا من أن منظومة الأمم المتحدة وأجهزتها الرئيسية التي أظهرت فشلها في تطبيق واجباتها ونصوصها الجميلة التي تتغنى فيها لتُطرب لها الأسماع منذ تأسيسها عام 1945 لغاية يومنا هذا، إلاّ أن دعوى دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في مدينة لاهاي الهولندية، وهي أعلى محكمة تابعة للأمم المتحدة، تتهم فيها إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة في حربها على قطاع غزة، أثارت عاصفة هوجاء وردود فعل غاضبة لدى الطرف الإسرائيلي الذي بدأ يحشد الضغط الدولي ضد الدعوى التي أعلنت عن دعمها دولًا عدة منها تركيا وماليزيا والأردن وبوليفيا. في المقابل يبرز غياب معظم الدول العربية الموقعة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية عن هذه الدعوى حتى الآن!!
ومع أن الإجابة عن سؤال جدوى تقديم دولة جنوب أفريقيا دعوى ضد إسرائيل، بحسب خبراء القانون الدولي، أنه في هذه المرحلة لن تحدد المحكمة ما إذا كانت هناك إبادة تجري في غزة ويحتاج ذلك عدة سنوات، غير أنه من المحتمل جدًا أن تتمكن جنوب إفريقيا من إقناع محكمة العدل الدولية باتخاذ إجراءات مؤقتة ضد إسرائيل متمثلة بحثّ إسرائيل على وقف إطلاق النار والتقيّد بالتزاماتها الدولية والتصرف بمزيد من ضبط النفس وضرورة السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، ومع ذلك إلا أن الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ انتقد هذه الدعوى واصفا إيّاها بأنها "دعوى لا يوجد ما هو أكثر وحشية وسخافة منها".
جدير بنا أن نتوقف مع تعبير "الوحشية" الذي استخدمه الرئيس هرتسوغ "حمامة السلام"، كما وصفه موقع "إيلاف" الإلكتروني السعودي الذي أجرى مقابلة معه قبل سنوات قليلة ضمن مقابلات أجراها مع شخصيات إسرائيلية رفيعة للترويج للسياسات الإسرائيلية في الوطن العربي في إطار خطى التطبيع العربي الإسرائيلي والاختراق الناعم. فإذا كانت مساعي دعوى جنوب أفريقيا التي من "المحتمل" أن تُفضي نتائجها إلى وقف إطلاق النار والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة يصفها الرئيس هرتسوغ بـ "الوحشية"، فماذا يُقال إذًا عن هرتسوغ "حمامة السلام" الذي وقّع قبل أيام على قذيفة مدفعية قبل إطلاقها باتجاه قطاع غزة أثناء زيارته للجنود في حدود قطاع غزة وكتب عليها (أنا أعتمد عليكم)، وهو محاط بالجنود المبتسمين فيما يشبه الحفل البهيج؟!
وماذا يُقال عن دفاع الرئيس هرتسوغ منذ بداية الحرب عن القصف المكثف على قطاع غزة رغم الأعداد الكبيرة من الأطفال والنساء وكبار السن الذين قتلوا نتيجة الحرب. ألا يعلم هرتسوغ الذي يُقدم على أنه "حمامة سلام" في الإعلام، أنه لا يختلف بعقليته عن العقلية الإسرائيلية الانتقامية في حرب الإبادة في غزة. إن هذه القذيفة الفتاكة التي وقّع عليها زرعت الدمار وقتلت الأبرياء في غزة؟؟، الذين كانت "خطيئتهم" الوحيدة هي أن يولدوا في غزة، أسوأ مكان في العالم يمكن أن يترعرع فيه الإنسان في هذه اللحظة؟ على الأقل كما تقول الكاتبة الإسرائيلية نيتا أخيتوف في مقال لها بصحيفة "هآرتس" العبرية بعنوان (ربما أصابت قذيفة هرتسوغ الأطفال؟).
ليس غريبًا على دولة مثل جنوب أفريقيا أن تقود معركة قانونية في محكمة العدل الدولية ضد جرائم إسرائيل، فهي تدعم قضية فلسطين منذ فترة طويلة، وغالبًا ما يربط أهل جنوب أفريقيا هذه القضية بنضالهم ضد نظام الأبارتهايد (الفصل العنصري)، وجنوب أفريقيا وإسرائيل من الدول الموقعة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والتي أقرت عام 1949 ردًا على مجازر الإبادة في حق اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. ولا شك أن هذه الخطوة مهمّة جدًا على المستويين السياسي والقانوني ويمكن أن تسلب الشرعيّة الأخلاقية من الطرف الإسرائيلي، وكما أننا لا نلزم أنفسنا برفع سقف التوقعات من نتائج القانون والمؤسسات الدولية، فإننا غير معفيين من مباركة ودعم أي جهود وخطوات تصب في صالح إحقاق الحق ورفض الظلم والقتل والدمار والإبادة الجماعية، كما أنه ليس من السهل أن يتم جلب إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية، وليس سهلًا اتهام تل أبيب بأنها تنفذ إبادة جماعية في غزة.