كلّ عام يأتي في توقيته.. في الوقت الذي تحتاجه أرواحنا؛ لتنجو من غرقها بماديّات الحياة وملذّاتها، في الوقت الذي جفَّت فيه أرواحنا من ماءِ الذّكر، وخلت من روح العبادة، فرمضان ليس فرصة ذهبيّة لمن لم يكن يصلّي ولا يقرأ القرآن فحسب، بل هو فرصة أكبر لمن كان يلتزم بالعبادات دون استشعارِ لذّتها، أو ملامستها للخراب الذي عاث بقلبه، دون تغلغلها في أعماقه المهشّمة المكلومة؛ لتنزلَ بردًا وسلامًا على لهيبِ الكره والضّغينة أو الشّعور بالظّلم لديه، فتُسقطَ سكينةً وطمأنينةً على كلّ قلبٍ أنهكته نوائبُ الدّهر، أو أذبلَهُ جحود البشر.
رمضان منحتنا الإلهيّة السَّنويّة، إذ تفتحُ فيه أبواب الجنّة، وتغلَقُ أبوابُ النّيران، هو فرصةٌ سنويةٌ لجَردِ أعمالنا كما يجردُ التّاجرُ ما لديه سنويًّا ليحصي أرباحهُ أو خسائره مع فرق التَّشبيه، فهنا علينا جردُ أعمالنا، وتقديرِ أخطائنا؛ لتصويبها، علينا النَّظر في علاقاتنا، وصلة أرحامنا، علينا تخيّلَ إن كان هذا آخر رمضانٍ نشهده فأين سيكون مقعدنا عند الله؟ هل هو راضٍ عنّا؟ وكأنَّ الله جلَّ جلاله جعلَ صوم رمضانَ شهراً كاملًا؛ ليكون كافيًا لإحداث تغييرٍ في النَّفس يصل معهُ الايمانُ إلى أعماقِ القلبِ المهجورة، وأجزاء الرّوحِ المقفرة من عبق الإيمان.
فهل سنبقى على حالنا بعد رمضان من الالتزام والسَّعيِ هرولةً إلى الله؟ يجيبُ الواقعُ بملءِ فمه: لا، لن نبقى بذاتِ الهمّةِ والعزيمة ولأسباب كثيرة، ففي رمضان تُصفَّدُ مردةُ الشياطين، فيبقى تأثيرُ النّفسِ هو الأكبر، ورمضان الشّهرُ الذي أنزلَ فيه القرآن لن يكون قدرهُ أبدًا كباقي الشهور، فمن الطّبيعيّ أن يكون له رونقٌ روحانيّ خاص لا يُضاهى. كما أنَّ في امتناع الإنسانِ عن الطّعام والشّراب صرفٌ له عن ارتكابِ المُحرَّمّات وفي حديث رسول الله عليه السلام إشارةٌ لذلك، حين قال: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ففي الصّوم تُهذَّبُ النُّفوس، ولأنَّ الحاجة للطّعام والشّراب من أولى احتياجات الإنسان الأساسيّة، فإنَّ حرمانه منها لوقتٍ سيُحدثُ هزلاً مؤقتا في جسده، بغضِّ النظر عن فوائدهِ له على المدى البعيد، ومع هزل جسده سينصرف عقله عن التّفكير في ملذّات الدّنيا، وسيكون فرصةً للتدبّر في نفسه والكون، فبِجوعه سيتذكَّرُ الفقراءَ والمجاعات فيشكرُ الله ويحمده، ويخجلُ من عصيانه.
فليس من المتوقع أن نظلَّ بعد رمضان بنفس الوتيرة، لكن ما علينا فعله أن نتخذَ من رمضان أساسا نبني حياتنا عليه فيما بعد، ونستقي منه مبادئ نداومُ عليها، فالعبرةُ في الدّيمومة، كما يقال: "قليلٌ دائم خيرٌ من كثيرٍ منقطع". وما ربحناه من رمضان فعلا هو ما دامَ فينا من أثره. فكيف تكونون ممن يستغلُّ رمضان للتدريبِ على الطّاعة بعده؟
لتكونوا كذلك إليكم هذا البرنامج التدريبيّ المختصر والأهمّ:
– التزموا بالصلاةِ وحافظوا عليها دائما في كل الظروف؛ لتبقى صلتكم بالله قائمة، إن أذنبتم عدتم، وإن تكالبت عليكم الهموم وجدتم فيها ملاذا وأمنا.
– لا تهجروا القرآن، واجعلوا لكم وردا يوميّا منه، ولو بضع صفحات؛ لكيلا تصبح قلوبكم كالبيتِ الخرِب، ويصيبها الصدأُ عنوةً.
– تصَدَّقوا فالصّدقة مرضاةٌ للرب، وعلاجٌ للنّفس والجسد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "داووا مرضاكم بالصّدقات" والصّدقة ليست في المال فحسب، فكلٌّ حسب قدرته، إذ تجوزُ بالمال أو الطّعام أو بكلمةٍ طيبةٍ، أو ابتسامةٍ في وجه أخيك، أو جبر خاطرٍ مكسور، أو سقي إنسانٍ أو حيوانٍ أو طيرٍ ظمآن. وسقي الماء من أعظم الصدقات عند الله، كما قال رسوله الكريم :"أفضل الصّدقة سقي الماء"
و"تبسّمك في وجه أخيك صدقة" و"الكلمة الطيّبة صدقة" و"اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ".
– برّوا والديكم وصلوا أرحامكم، فصلتها من صلة الله، وتذكَّروا أن الجنّةَ لا يدخلها قاطع رحم.
– احفظوا ألسنتكم ونزِّهوها عن أعراضِ الناس، وفحش الكلام فلا تطلقوها في غيبةٍ أو نميمة أو قول زور، أو بذاءة. وتذكّروا حين قال عليه السلام من ضمن حديثه لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله، قلت: بلى يا رسول الله، قال: فأخذ بلسانه، قال: كف عليك هذا. فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمّك يا معاذ، وهل يكب النّاس في النّار على وجوههم، أو على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم". فقد يدخل الإنسان الجنّة بعملٍ ليس بالكثير، ولكن بفضل أخلاقه وطهر لسانه وسلامة قلبه. فما عليكم الصيام عنه أبدا هو سوء الأخلاق من كذب وغشّ ونفاق وحقد وأنانيّة. صوموا عن ذلك؛ لتصحوا جسدا وروحا.