من المفارقات المأساويّة، الجاثمة على ألواح الذّاكرة الفلسطينية، هي أن تتحوَّل الرسائل الخطيّة، وأحيانًا الصّوتية عبر المذياع إلى لغة التّخاطب والتّواصل الوحيدة الممكنة بين أفراد العائلة الواحدة التي فرّقها التّهجير، وحطّمتها النكبة، هذه الحالة القسريّة القهريّة التي لا تُماثلها حالة في التّاريخ البشريّ، هي حالة فلسطينيّة خاصّة، حالة حملت، وما زالت تحمل أوجاعًا فوق أوجاع، والتي أرهقت كلَّ أشكال التّواصل، وعبثت دمًا، وأصبح خطاب المناداة، أُمّاه يتجاوز "بوّابة مندلباوم" في القدس، إلى بوّابات أحزان خانقة على حافّة ما تبقّى من مكان، خطاب يتجاوز حدود جماليّة الشّعر وموسيقاه، يتجاوز مساحات التّشبيه وعلامات التّعجّب والاستفهام، ليصبح خطاب مناداة أُمّاه، أنينًا خافتًا، يكاد يكون هامدًا كرماد جمر يتولّد في كلّ حين من شجرة الزَيْتون واللّيْمون، ويتولّد نسيمًا من عطر الوردة والنّعناع.
هذه البّوابة، بوّابة الحزن، بوّابة الدّموع، بوّابة "مندلباوم" القائمة في القدس بُعَيْد النكبة، حتّى عام ١٩٦٧، أوْحَت للشّاعر توفيق زيّاد أن يسأل النّجمات عن الأهل هناك، وعن زمن بدء خطوة العودة الأولى، وأن يصدح بقصيدة "رسالة بوّابة مندلباوم" المدويّة:
أبو صلاح عُمِيَت عيناه من قهر
وأُمّ فخري ذهبت حُزنًا على فخري
والقرية السّمراء قد شابت من الصّبر
والعين شحّ الماء فيها، فهي لا تجري
لم يبق يا أُمّي غير الملّ والصّخر
لكنّنا نصمد كالفولاذ للدّهر"
كما أخذتني هذه البوّابة شخصيًا، إلى أجواء ودلالات اللّقاء، المقابلات بين شقَّي الألم والأمل، بين نِصفَيّ الرّوح، الى بوّابة الحزن، أخذتني إلى تجربة طفوليّة عميقة الأثر في نفسي ووجداني، مع هذه البوّابة المُتاحة، "بوّابة مندلباوم"، حيث كانت لي، ومن خلالها، فرصة مكانيّة وزمنيّة لمقابلة جدّتي وعمّتي اللاجئتين المُهجّرتين في بلاد العرب، ولم أرهما قطّ من قبل، جئت ووالديَّ والأقارب لمقابلة قصيرة عابرة ، لمقابلة الأمّ لابنها، والإبن لأُمّه، والأخت لأخيها والأخ لأخته، والجدّة لحفيدها والحفيد للجدّة، وقد مُنع والدي من مقابلة والدته، لكن هذا المَنع الجّائر لم يستطع منع جدّتي من الخروج والانطلاق مُتحدّيّة مُسرعة صارخة، لتتجاوز حدود البوّابة نحو أبي، ابنها في الخارج، لتضمّه فَرِحةً، شوقًا معتقًا إلى أحضان حضنها، لتختصر بهذا سنوات الفراق واللّوعة بلُحيْظة دافئة يتيمة، لتتبعها سنوات عجاف من البُعد العقيم الثّقيل، لتُعيد حمل الهمّ، واشتعال لوعة الفراق من جديد، وحفظ هذا المشهد في ذاكرة الأجيال القادمة مرسومًا على جبين الحقّ والعدل، ليبقى هذا اللّقاء، لقاء الدّموع بالدّموع، الذّكريات بالذّكريات، الأحزان بالأحزان، الفرح بالفرح، الحلم بالحلم، والفراق بالفراق، والّلقاء باللّقاء، ليبقى حيًا بلقاء الأمل بالأمل..... بأمل العودة
بقلم
فيصل طه
صفوريّة- النّاصرة