في حربها الإنتقامية على قطاع غزة، لا تكتفي إسرائيل باستخدام الأسلحة المحرّمة دوليًا شديدة الفتك والدمار، ولا تكتفي بزرع الموت والدمار والتهجير، ولا تكتفي باستخدام سلاح التجويع شديد الفتك والإبادة، إنما أيضًا تقوم بعمليات سرقة ونهب وسطو على البيوت في غزة والعبث بمحتوياتها وحمل ما خفّ حمله وتخريب ما تبقى. ووفقًا لتقرير نشره المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، فإن الجيش الإسرائيلي أطلق العنان لجنوده في قطاع غزة للإقدام على ممارسات وصفها بأنها "غير أخلاقية" بحق المدنيين الفلسطينيين خلال مداهمة منازلهم، شملت سرقة ممتلكات وأعمال نهب. وتشير الإفادات التي وثّقها المرصد إلى سرقة متعلقات شخصية لمدنيين فلسطينيين وأعمال نهب واسعة لمقتنيات ثمينة قام بها الجيش الإسرائيلي قد تتجاوز حصيلتها عشرات الملايين من الدولارات بما يشمل الذهب ومبالغ مالية وهواتف نقالة وأجهزة كمبيوتر محمولة!!
وكذلك يؤكد ناحوم بارنياع، المحلل في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية أنَّ جيش بلاده ارتكب أعمال نهب وهدم غير مبررة طالت منازل الفلسطينيين في غزة. وحذَّر "بارنياع" من انعكاس هذه الممارسات على إسرائيل نفسها، كما أبدى تخوفه من استخدام مشاهد وصور الانتقام الجماعي من السكان الفلسطينيين في غزة، ضدها (إسرائيل) أمام محكمة العدل الدولية.
والسؤال: هل النهب وسرقة الممتلكات في الحرب ظاهرة مستحدثة أم ميراث متجذر في عقلية من لا قاع لسقوطه الأخلاقي والقيمي؟؟ في سياق الإجابة عن هذا السؤال خاصة ونحن على أبوب ذكرى النكبة الـ 76، جيد أن نستحضر كتاب (نهب الممتلكات العربية في حرب 1948) للمؤرخ الإسرائيلي، آدم راز، خاصة وأن هذا الكتاب يوثق من الأرشيفات الإسرائيلية عمليات نهب العسكريين والمدنيين اليهود كل ما طالته أيديهم إبان النكبة في جميع أنحاء فلسطين.
يقول "راز" في مقدمة كتابه: يُعتبر النهب في زمن الحرب ظاهرة تاريخية طويلة الأمد. قدم القرن العشرون أمثلة كثيرة على أعمال النهب والسلب في زمن الحرب. نهب المقاتلون الأمريكيون في حرب فيتنام السكان، كما فعل مقاتلو الحلفاء أثناء احتلال ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية في أوروبا. لكن القضية الحالية فريدة من نوعها لسبب واحد واضح يجب التأكيد عليه مرارًا وتكرارًا: نهب الجمهور الناهب (اليهود) جيرانه السكان (العرب). لم يكن هؤلاء "أعداء" مجردين في الخارج، بل جيران الأمس.
سأضيف على ما ذُكر، أنّ عمليات النهب والسرقة "التعفيش" في سوريا، ظاهرة باتت معروفة منذ 2012 وانتشرت عندما تصاعدت الحرب وبدأ السكان يفرون من منازلهم، حيث ارتكبت قوات النظام السوري عمليات نهب ممنهج للمدن والقرى التي دخلتها وقامت بنهب المنازل المهجورة في المناطق التي تستولي عليها، حتى وصل بهم الحال إلى خلع الأبواب والنوافذ الحديدية لسرقتها بالكامل وهدم الأحجار في محيط النوافذ حفاظًا على الحديد لتسهيل عملية بيعه، وحتى التمديدات الكهربائية داخل الجدران لم تسلم من النهب. علاوة على النهب، أحرق الجنود وعناصر المليشيات بعض المنازل بعد سرقتها وتفريغ محتوياتها بالكامل.
ويؤكد آدم راز في موضع أخر من كتابه أن: "أجزاء كثيرة من الجمهور الإسرائيلي، مواطنون ومقاتلون على حد سواء، كانوا ضالعين في نهب أملاك العرب الفلسطينيين والتي شملت محتويات عشرات آلاف البيوت والحوانيت، ومعدات ميكانيكية، ومصانع، ومنتجات زراعية وغير ذلك. ويذكر المؤلف ما قاله حرفيًا بن غوريون بهذا الصدد في 24 يوليو/ تموز 1948: "اتضح أن غالبية اليهود هم لصوص. أقول هذا بشكل مقصود وببساطة، لأنه لأسفي هذه هي الحقيقة". مع أهمية الإشارة إلى أن تصريح بن غوريون تطرق فقط لسرقة أملاك أهل الوطن بعد طردهم من أراضيهم وبيوتهم إلى المنافي ولم يتطرق لسرقة وطن بأكمله وطرد سكانه!!
ولأنَّ المجال لا يتسع، نستحضر ما ذُكر في الكتاب عن عمليات النهب والسرقة في القدس، مع أن هذه العمليات غير الأخلاقية، ارتكبت إبان النكبة من طبرية شمالًا وحتى بئر السبع جنوبًا، ومن يافا حتى القدس، وشمل النهب المساجد والكنائس والقرى المنتشرة بين الييشوف اليهودي. ويقول المؤلف: لقد استمرت عمليات السرقة لأشهر طويلة بعد الحرب وشارك فيها مدنيون وجنود وقادتهم العسكريون، بحثوا في كل بيت وسرقوا من كل بيت. ونقل عن مواطن يهودي من سكان القدس، يدعى يئير غورون، أن "النهب كان من نصيب الجميع، نساء ورجال وأطفال تراكضوا في أنحاء القدس للسرقة مثل الفئران المسممة، وتخاصموا وتقاتلوا على كل غرض، ووصلوا إلى حد إراقة الدماء. بعض الجنود في وحدة عتصيون تلفعوا بالسجاد الذي سرقوه".
ويؤكد المؤرخ الإسرائيلي في كتابه أن هذا النهب هو أكبر سرقة جماعية حدثت في تاريخ فلسطين. ويُستنتج أن الممتلكات التي تركها العرب الفلسطينيون، هي من أعظم العوامل التي أسهمت في جعل إسرائيل "دولة حيّة". فإن ترامي مساحتها وكون معظم المناطق بطول الحدود يتألف من أملاك للغائبين، جعلت للممتلكات أهمية استراتيجية. ومن المستعمرات اليهودية الجديدة التي أنشئت بين العام 1948 وأوائل 1953، وعددها 370 مستعمرة، كانت 350 منها على أملاك للغائبين. وفي العام 1954 عاش أكثر من ثلث سكان إسرائيل اليهود في ممتلكات الغائبين، كما أن ما يقرب من ثلث المهاجرين الجدد (وعددهم 250 ألف نسمة) استقروا في مناطق داخل مدن تركها العرب. ولقد تركوا مدنا بأسرها مثل يافا وعكا واللد والرملة وبيسان والمجدل و388 مدينة وقرية وأجزاء كبيرة من 94 قرية أخرى. وهناك عشرة آلاف متجر ومشروع ومستودع تركت في أيدي اليهود. ولدى انتهاء الانتداب، بلغت جملة مزارع الأشجار الحمضية في الأراضي التي استولت عليها إسرائيل نحو 240 ألف دونم، نصفها كان مملوكًا للعرب الفلسطينيين.