الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 09 / نوفمبر 23:01

نحذّر دولة إسرائيل من دولة المستوطنين

الشيخ صفوت فريج
نُشر: 05/09/24 19:15,  حُتلن: 04:52

"نحذّر دولة إسرائيل من دولة المستوطنين"

الشيخ صفوت فريج- رئيس الحركة الإسلاميّة في الداخل الفلسطيني

إنّها مقولةٌ خالدة لا تزال راسخة في ذهني منذ أكثر من خمسةٍ وعشرين عامًا، قالها الشيخ الوالد المؤسّس عبد الله نمر درويش رحمه الله: "نُحَذِّر دولة إسرائيل من دولة المستوطنين". كانت مقولة غريبة لم يدركها كثيرون، لتثبت هذه الأيّام صحّتها ودقّتها، وهي اليوم أوضح وتزداد توكيدًا.

مع تزايد عمليّات الإرهاب والتخريب والتدنيس الّتي يمارسها أولئك المتطرّفون تجاه أهلنا في الضفّة الغربيّة والقدس والأقصى المبارك، وحتّى معنا نحن مواطني هذه البلاد -وما أحداث مباراة سخنين بالأمس في بئر السبع عنّا ببعيدة- ومع ما يُبديه هؤلاء من كراهيةٍ لكلّ من هو مختلف، يهوديًّا كان أم عربيًّا من مواطني البلاد، يُصبح جليًّا أنّ سياسة الاستيطان وشرعنتها تُسهِم في نزع شرعيّة الدولة وتقويض أركانها، لتَخرج رسميًّا من مصافي الدول الديمقراطيّة، أو من اعتبارات من ظنّها كذلك. هذا ما يحدث الآن، وبوتيرة متسارعة.

جاء في تقرير صادر عن منظّمة "سلام الآن"، تحذيرٌ واضح يدلّ على واقعٍ مقلق لا يمكن التغافل عنه، إذ أكّدت هذه المنظّمة على أنّه لا بدّ من مواجهة هذا الواقع بدلًا من إنكاره، وأنّه لا يمكن التغافل عن اعتداءات المستوطنين المتطرّفين، ولا يمكن تجاهل الجرائم القوميّة، وأنّ هناك إرهابًا يهوديًّا تدعمه بعض الجهات الحكوميّة، والإرهاب هو إرهاب، وأنّه قد حان الوقت للتعامل معه بجدّيّة قصوى. اليوم لا حدود لبلطجة هذه المجموعة، وهي لا تأخذ بعين الاعتبار قانونًا ولا دولة، بل تظنّ أنّها الدولة، فتقتحم معسكرات جيش، وقرى فلسطينيّة وملاعب ومظاهرات، بل حتّى وزير أمنها يخرج عن قوانين السير ويصطدم بسيّارة، ويحوّل الضحيّة مذنبًا!

عندما تضعف أجهزة الدولة السياديّة وتنهار الأنظمة القانونيّة أو تكاد، تصبح الفرصة سانحة لجهات مارقة تسعى للهيمنة على مفاصل الدولة ومواردها، وتصبح القوانين عبئًا يجب التخلّص منها لتحقيق مصالح ضيّقة. في ظلّ هذا الانحراف، يصبح الحفاظ على التحالفات السياسيّة والتمسّك بالحكم هدفًا مقدّسًا، حتّى لو كان على حساب الحفاظ على كيان الدولة نفسها، ممّا يؤدّي بالتالي إلى تآكل سلطة القانون واستبدالها بسلطة القوّة والنفوذ.

وفي هذا السياق، يتجلّى بوضوح الوجه الآخر لإسرائيل، والّتي طالما تغنّت بديمقراطيّتها وحفاظها على حقوق الإنسان، لكنّ سياسة الاستيطان الّتي تتبنّاها اليوم هذه الدولة، وتديرها من خلال وزارات استيطانيّة ووزراء كهانيّون، تسقط ورقة التين عن الديمقراطيّة المزعومة، وتعرّي حقيقتها وتنزع عنها القناع، لتسفر بالتالي عن تفشٍّ خطير للجرائم بأنواعها، وموجات تطرّف تشكّل تهديدًا على البشر والحجر، ممّا يعوّق من مساعي الاستقرار ويرفع من حدّة تأجيج الصراع.

أظهر بحث معمَّق جديد أُجري في مركز "أكورد- علم النفس الاجتماعي من أجل التغيير المجتمعي" نتائج مقلقة مؤشِّرة على منحًى خطير: 59% من الشباب الحريديم، ونصف الشباب اليهودي المتديّن، وربع الشباب اليهودي العلماني، يؤيّدون تجريد المواطنين العرب من حقّ التصويت!. وهذا يثير أكثر من علامة استفهام حول القدرة الحقيقيّة لهذه الدولة على الحفاظ على إطار ديمقراطي شامل وفعّال. ويزيد من خطورة الموقف ما أشار إليه البحث من انخفاض واضح في دعم القيم الديمقراطيّة الأساسيّة، مثل المساواة في الحقوق للأقلّيّات. إضافة لذلك، أعرب أكثر من 25% من الشباب اليهودي عن تأييدهم لتقييد حرية التعبير، ممّا يعكس تآكلًا حادًّا في التزام الدولة بمبادئ الديمقراطيّة الجوهريّة.

لا شكّ أنّ تصاعد الاعتداءات الاستيطانيّة العنصريّة، مصحوبةً بغضّ الطرف (والدعم المباشر في أحيانٍ كثيرة) من الحكومة والمنظومة القانونيّة، يكشف عن خلل جوهري بنيويّ في هذه الدولة. حيث أصبح الحفاظ على السلطة من خلال إضعاف القانون أولويّة لدى القيادات والأحزاب، وأُقصِيَت جانبًا مسائل حقوق المواطن الأساسيّة وحمايتها. هكذا تجد الدولة نفسها في صراعٍ داخلي، يدور بين شهوة الحفاظ على السلطة، وبين واجب الالتزام بالقيم الّتي التزمت بها أمام العالم المتنوّر والحضاري (بمزدوجين، أو بدون). وإن كانت مسائل حقوق المواطن قد أُقصِيَت، فما بالكم بحقوق المواطن العربي؟ حتّى حقّ الحياة والمسكن والتنقّل والتربية والتعليم، أصبحت حقوقًا تستوجب النضال من أجلها، نضالًا يقع على قلوب ظالمة مظلمة وآذان صمّاء. 

وفي ظلّ هذه الظروف المعقّدة، يجد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو نفسه أمام تحدّيات سياسيّة وقانونيّة تقيّد قدرته على اتّخاذ قرارات هامّة، لا سيّما وأنّ أروقة المحاكم -ولربّما قضبان الحديد- تلوح في أفقه وذهنه صباحًا ومساءً. لهذا يجد نفسه رهينةً في أيدي الأحزاب اليمينيّة المتطرّفة المستحوِذة على حبل نجاته، ممّا يجعله عاجزًا تمامًا عن إبرام صفقة لتحرير أسرى المجتمع الإسرائيلي، حتّى لو كان المقابل إعادتهم جثثًا من غزّة، لأنه على يقين أنّ نجاتهم تعني هلاكه السياسي. 

بالتالي فإنّ دولة المستوطنين الّتي بدأت تتجلّى معالمها، قد أصبحت مصدر اضطراب وقلق وخطر ليس فقط على الفلسطينيّين، بل هي كذلك على كلّ من ينشد حياةً كريمةً آمنةً في هذه الديار. رحلت يا شيخنا ووالدنا، وبقيت كلماتك خالدة، حقًّا وفعلًا: "نحذّر دولة إسرائيل من دولة المستوطنين".

مقالات متعلقة