أعتقد جازما أن ليس كل كلام موزون مقفى هو شعر حتى ولو دل على معنى، فمن أبرز خصائص الشعر التصوير الذي يلعب فيه الخيال دورا رائدا لا يخفى، كما أعتقد أن العروض لا يجعل من المرء شاعرا، فالقصيدة إن لم تتوفر على المواصفات التي تجعل من الكلام شعرا فهي تكون نظما في أحسن الأحوال ، ولا صلة لها بالشعر إطلاقا، وإلا لاعتبرنا ابن مالك وابن الجزري - الأول في النحو والثاني في علم التجويد - شاعرين كبيرين ، وهما لا علاقة لهما بالشعر في منظومتيهما لا من قريب ولا من بعيد. وكما نعلم فهناك آيات في القرآن الكريم جاءت موزونة عروضيا ، ولا يمكن أن نقول عنها بأنها شعر أبدا،كهذه الآية الكريمة: [إنا أعطيناك الكوثر] - بحر المتدارك - ، وهذه الآية الكريمة : [لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون].- بحر الرمل.
.بل إنني أزعم أن المرء قد يكون شاعرا في غياب العروض كما نرى في القصائد النثرية لمحمد الماغوط وأنسي الحاج مثلا. فالشعر تصوير وإيحاء وتلميح وتكثيف حتى تأتي الصورة الشعرية على أحسن وجه. ’ وكثير من الكلام الموزون لا نجد فيه هذه المواصفات، فهو ليس شعرا حتى وإن زعم أصحابه أنه شعر.
إذا، فالكلام قد يكون شعرا حتى وإن خلا من الوزن، ويكون كلاما تقريريا لا صلة له بالشعر حتى ولو كان موزونا ومقفى.وقد يكون مقال صحفي أو صورة فوتوغرافية أفضل بكثير من قصيدة تتحدث لنا عن واقع كما هو مشاهد بالعين وتستشعره الحواس ، إذ أن القارئ يعرف الواقع ويدركه ولكنه يريد أن يسمو بمعرفته تلك إلى الإدراك الجمالي للأشياء. وهو أمر لا يتحقق إلا في القصيدة المتوفرة على مقومات الشعر وخصوصياته.
ليس لي أي موقف من قصيدة النثر ، فهذه القصيدة هي أول ماكتبت في مسيرتي الشعرية، وقد نشرتها في منابر ثقافية متعددة ، صحف ومجلات ، وسرت فيها شوطا لا بأس به ، ثم بدا لي أن الحابل اختلط بالنابل فيها ، وأن كل من استطاع أن يفك رموز الأبجدية بإمكانه الدخول إليها دون مراعاة لما يتطلبه الشعر من عناصر أساسية لوجوده ، فاتجهت إلى القصيدة الموزونة ، مع العلم أنني درست العروض قبل أن أكتب قصيدة النثر نفسها.
إن قصيدة النثر في نظري أصعب من القصيدة الموزونة - الشعر صعب كان قصيدة موزونة أم قصيدة نثرية - لأن ما ينقصها من موسيقى خارجية ينبغي أن يعوض عنه بعناصر أخرى كالإيقاع في المعنى والموسيقى الداخلية المتمثلة في تركيب الحروف داخل الكلمة ، والكلمة داخل الجملة. وبطبيعة الحال فهذا العمل يتطلب مهارة من صاحبه ، إذ المقصود في الشعر ليس هو تبليغ المعنى والمضمون للقارئ فقط ، بل الشكل الذي حمل فيه المعنى أيضا.فكم من بيت أو قصيدة أعجبنا بها لا لما قالته بل للكيفية التي قالت بها.
حقيقة أنني أجد أحيانا في قصيدة النثر من الشاعرية والشعر ما لا أجده في القصيدة الموزونة ، وللأسف فالقصيدة النثرية الحاملة للشعر نادرة جدا جدا.