لم يكن قرار الموافقة المبدئية الإسرائيلية على الهدنة ووقف إطلاق النار مع حزب الله مفاجأ، فالمعركة التي استمرت مدة شهرين وقبلها عاما كاملا وبقوة، أي منذ سبتمبر/ ايلول الماضي، اخذت تفقد تأييدها الشعبي داخل المجتمع الإسرائيلي، نظرًا للخسائر البشرية الجسيمة في صفوف الجيش الإسرائيلي، التي بلغت حسب اعتراف إسرائيلي أكثر من 128 جنديًا وضابطًا والمئات من الجرحى، من القوات النخبة، خاصة من لواء جولاني وألوية أخرى.
لقد كان السيناريو متوقعًا بنفس ما كان عليه في الثاني من تموز 2006 عندما أمر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك اهود ارميلت، الجيش بالتقدم حتى الليطاني واستمر هذا التحرك تقريبًا بنفس المدة التي استمر فيه تحرك الدبابات والمدرعات آنذاك والتي وصلت إلى حوالي 40 يومًا، اما هذه المرة فقد وصل التحرك البري أكثر بقليل من آنذاك، لكن التغير الكبير والجذري الذي حدث، هو إعطاء الضوء الأخضر من قبل الولايات المتحدة لضرب البنى التحتية المدنية والمساكن الشعبية، والعمارات السكنية في قلب بيروت، بحيث انزلت إسرائيل آلاف الاطنان من القنابل على هذه المباني المأهولة بالسكان، التي يسكنها مدنيون أبرياء من اللبنانيين والتي ادت إلى قتل الالاف من المدنيين اللبنانيين.
وفي إحصاء اولي لوزارة الداخلية اللبنانية، هنالك أكثر من 4000 لبناني مدني قتلوا في الغارات اليومية التي شنها سلاح الجو الإسرائيلي على تلك البنية السكنية في كافة انحاء لبنان، خاصة في الضاحية الجنوبية حي حريك، البصة، وأماكن أخرى في البقاع وبعلبك.
لقد ارادت إسرائيل وبدعم امريكي بالذخيرة والمال من إدارة بايدن ومن الكونغ ريس حسم المعركة وبسرعة، لكن الخبراء العسكريين وصلوا إلى نتيجة، مفادها انه على الرغم من هذا الدعم الأمريكي القوي والدعم السياسي في مجلس الامن، إلى أن إسرائيل سوف لن تستطيع حسم المعركة في جنوب البنان كما ظنت، حيث انزلت على الساحة أكثر من 100 ألف جندي، لكنهم لم يتقدموا، بحسب اعترافات الإعلام الإسرائيلي أيضًا، أكثر من 3 إلى 5 كيلومترات عن الحدود الشمالية داخل الجنوب اللبناني.
لكن اسرائيل في هذه المرة استطاعت عمل الكثير في حدودها الشمالية القريبة من المناطق اللبنانية، حيث دمّرت وبشكل منظم العديد من القرى اللبنانية المحاذية للحدود مع إسرائيل تدميرًا كاملًا وممنهجًا، ومن ثمّ انتقلت قوات الجيش الإسرائيلي من بيت إلى آخر ودمّرت هذه البيوت بشكل محكم بعد ان هرب سكانها اللبنانيون العُزّل منها.
ويمكن القول إن القيادة الإسرائيلية بقيادة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، قد وضعت نُصب عينيها العمل على تدمير تلك المنطقة تدميرًا كاملًا، ويعتبر هذا الامر من الأسس الجديدة لقوانين الحرب المتمثلة في الحروب الحديثة المستقبلية للقرن الحادي والعشرين، بحيث أن ما فعله في غزة وبيروت، كان تدميرًا ممنهجًا وواسعَ النطاق شمل البنية التحتية والسكانية، جعل أكثر من مليوني مواطن يسكنون في العراء والجوع وبدون أي غطاء يتستر عليهم كبيوت مدارس مبان سكنية خاصة أو عامة، وقد فعل الجيش الإسرائيلي نفس الامر في جنوب لبنان وأجزاء كبيرة من بيروت، حيث أرسل كتائب النخبة الإسرائيلية من جولاني، أقوز، دوفديفان وكفير، إلى تلك المنطقة الضيقة لجعل هذه المناطق، مناطق لا تصلح للسكن وقد استطاع الجيش تنفيذ هذه المهمة على مدى شهرين وبشكل متواصل، لكنه لم يستطع التقدم أكثر داخل الوحل اللبناني، حيث تصدت له قوات للبنانية منعت تقدمه وأوقعت به خسائر كبيرة باعتراف الاعلام الإسرائيلي، وقد وصلت القيادة الإسرائيلية إلى نتيجة مفادها بان احتلال جنوب لبنان والوصول حتى الليطاني، يمكن أن يكون مكلفًا ويصل إلى المئات من القتلى كل شهر، بحيث أن حرب الاستنزاف سوف يكون عنوان هذه المعركة، إضافة إلى اقترابنا من فصل الشتاء والبرد القارس الذي بدأ يؤثر على جنود الاحتلال في الداخل اللبناني، الامر الذي أجبرهم للاختباء في بيوت اللبنانيين، والكنائس والمساجد هناك، وقد وصل بقائد لواء جولاني، إلى جلب أحد المؤرخين من مستوطنة عفرا، كي يعطي معلومات عن تاريخ بعض الكنائس المسيحية ويكتب عنها تقريرًا كأنها كنيس يهودي، وقد فاجأهم كمين لمسحلي حزب الله، أدى إلى مقتله مع جنود آخرين، إضافة إلى ذلك فقد قام هؤلاء الجنود بتصوير فيلم قصير داخل الكنسية، اقاموا فيه عرسًا كاثوليكيًا وهميًا، أهانوا فيه الدين المسيحي ومعتقداته، وقد نشر هذا الفيلم بشكل واسع، ما ادى إلى استنكار كبير وصلت اصداؤه حتى الفاتيكان، ويعتبر ذلك نقطة تحول حاسمة في استمرار تواجد الجيش الإسرائيلي في تلك المِنطقة .
كما يعتبر قرار محكمة الجنايات الدولية أيضًا، عاملًا حاسمًا في هذا الشأن، بحيث أطلقت ووجهت إلى نتنياهو ووزير دفاعه، أوامر اعتقال مِن قبل محكمة الجنايات الدولية، الامر الذي أدى إلى الاسراع والبدء في التفاوض بين الأطراف بمبادرة أمريكية لإنقاذ إسرائيل من هذا الوحل، بحيث انهم وصلوا إلى نتيجة مفادها أن إسرائيل وصلت إلى طريق مسدود في حربها على لبنان وقطاع غزة.
ويمكن القول إن اقتراب نهاية ادارة بايدن، وعدم تحقيقها أي انجاز في الحرب الدائرة في لبنان وقطاع غزة، إضافة إلى قرار محكمة الجنايات الدولية والايقان بان إسرائيل فعلًا تخوض حربَ استنزاف من المؤكد أن نتيجتها ستكون الخسارة العسكرية الفادحة، لذا فإنها ايقنت أنه من الأفضل إيقاف الحرب والتوقيع على اتفاق هدنة ووقف إطلاق النار وهذا ما كان.
ومن هنا فان الأمريكيين وبدعم فرنسي، الماني وبريطاني، عملوا جاهدين على محاولة تخليص إسرائيل وحكومة نتنياهو من هذه الحرب، وفي نفس الوقت قاموا بتهديد الطرف اللبناني، خاصة حكومة نجيب ميقاتي ولبنانيين آخرين، لإيقاف هذه الحرب الدامية، وقد عمل الوسيط الإسرائيلي الأمريكي عاموس هوخيشتان جاهدًا لإقناع الطرف اللبناني والإسرائيلي في نقاط اتفاق الهدنة التي أعلن عنها بايدن في واشنطن، ليلة السادس والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني، مع الرئيس الفرنسي ماكرون عن وقف الحرب.
وقد برّر نتنياهو في خطاب له في نفس الليلة، أسباب قبوله للهدنة في ثلاث نقاط مركزية، تؤكد ما قمنا بتحليله، وهو أن إسرائيل تنظر في المستقبل القريب: أولًا إلى مواجهة قريبة وحتمية مع ايران، وثانيًا أن الجيش الإسرائيلي بالفعل قد تعب واستنزف منذ أكثر من 300 يوم، وهو ينزف في المعركة ومن المهم أن يلفظ أنفاسه ويستريح للمواجهة المقبلة في جبهات أخرى، لا يعرف أحدٌ متى ستنشب مرة ثانية، كما ادعى أن الولايات المتحدة تُهدّد بعدم تزويده بمزيد من الذخائر والقنابل التي قدمتها له منذ أكثر من 14 شهرًا لتدمير لبنان وغزة، إضافة أنه استطاع فك الارتباط بين الجبهتين اللبنانية والفلسطينية في قطاع غزة.
ولا يعرف أحدٌ إلى متى سيستمر وقف إطلاق النار هذا، كون إسرائيل غير جادّة في تنفيذ بنوده المتعلقة بالانسحاب، واصرارها على نزع أي سلاح من لبنان، وتحوليه إلى دولة منزوعة السلاح تسيطر فيه على أجوائها وعلى حدودها، ويبقى السؤال المركزي أيضًا، إذا استطاعت اسرائيل تحقيق أحد أهداف حربها، وهو إرجاع سكان الشمال المئة والخمسين ألفًا بالقرب من الحدود مع لبنان، وهذا هو أيضًا، السؤال المركزي الذي يُطرح من حيث نهاية هذا الصراع.