الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 23 / نوفمبر 15:02

رهين الخريفين- بقلم: عودة بشارات

بقلم: عودة بشارات
نُشر: 05/09/09 12:52,  حُتلن: 12:57

* في زحمة نباتات البر، ترتفع نبته العوصلان، شاحبة قد لا تلحظها، ولكنها عنيدة وشامخة
* في أيلول، تجد الأشياء مكانها الطبيعي، القميص والحذاء والكتاب والدفتر وغلاية القهوة. وفي أيلول، تَجمع، أنت أيضًا، أغراضك التي بعثرتها الرياح، تجمعها قطعة قطعة، تعيد كلاً منها إلى موقعه، فقد آن أوان السبات

تتسلل نسمة، تبدو ضعيفة ولكنها عنيدة، من بين نسائم الصيف الخانقة. آنذاك تدرك، بالغريزة قبل العقل، أنه زمن الانطواء. رجع أيلول. وفي زحمة نباتات البر، ترتفع نبته العوصلان، شاحبة قد لا تلحظها، ولكنها عنيدة وشامخة، تأتي في وقت ما لتعلن، بما قُدّر لها من قوة وتصميم، انتهاء عهد، ولتبشر إنه من الشقوق، ومن بين ثنايا الأشياء، يتسلل، بهدوء، عهد جديد يكتسح المجال.
وتكون برهة ينبعث منها حزن غامض غير مبرر، "مو حزن لكن حزين"، يقول الشاعر مظفر النواب، حزن لا تدري كنهه ولا تدري سببه؛ حزن مشوب براحة، راحة الانطواء، راحة طي الأعلام وإيداعها في مستودع السنة القادمة، راحة العودة للبيت بعد التبعثر في العاصفة- في الجبال والبراري وعلى شواطئ البحار.
في أيلول، تجد الأشياء مكانها الطبيعي، القميص والحذاء والكتاب والدفتر وغلاية القهوة. وفي أيلول، تَجمع، أنت أيضًا، أغراضك التي بعثرتها الرياح، تجمعها قطعة قطعة، تعيد كلاً منها إلى موقعه، فقد آن أوان السبات، وجميل السبات بعد الجنون والانطلاق والشوارع المزدحمة والعابثة، جميل أن "يتضبضب" الناس. في آن ما، يصبح الانطواء فعل طبيعي، بعد أن كان الانكماش في البيت، بجانب الموقد، أمرًا لا يُطاق.
ويحل حزن جميل. لماذا هذه المسحة من الحزن؟ لأن هنالك نهاية لانطلاقة الصيف المتعالية. وهو حزن جميل لأن هذه العودة تصبح حاجة، لا بد منها. إنه حزننا الخفي. وخلافًا للأطفال الصادقين في التعبير عن عواطفهم لدى انتهاء وقت لهوهم، نتحصن نحن خلف وجوهنا الواجمة. وهو حزن لأننا، في أعماق نفوسنا المتعبة، ندرك الشيء الذي نأبى المجاهرة به، أن لكل شيء نهاية، وأن لكل شيء مقدار. وفقط الهوى استثناه مظفر النواب من هذا القدر:
"يا غريب الدار
إنها أقدار
كل ما في الكون مقدار وأيام له
إلا الهوى
ما يومه يوم
ولا مقداره مقدار.."
ومن جديد تعود هذه الدورة المثيرة لتثير دهشتنا؛ فما سر الانطلاق في الربيع؟ ما سر تلك الرغبة الجامحة لارتياد شواطئ العالم قاطبة؟ ما سر تلك الرغبة في التجول في الأسواق والبازارات ومحادثة الناس وارتياد المحطات والمطارات والموانئ؟ ما سر "هاجس الخارج" الذي يُخرج الأطفال عن طورهم والشباب إلى جنونهم، والآباء إلى جموحهم المربك؟
أما الآن فقد آن الأوان، بعد أن ضب اليوم رمسه، للعودة للبيت؛ أن نجري حساباتنا وأن نكبح اندفاعنا المندلق في الشوارع؛ آن الأوان أن يعم قليل من الصمت لنستعيد في أذهاننا ما جرى؛ آن للطالب أن يدرس وللمعلم أن يدرّس وللزارع أن يزرع؛ آن للبيت أن يعيد نظامه الأول، وأن يكون هناك وقت للاستيقاظ ووقت للإيواء ووقت للجد.
وكما هو المساء في اليوم.. هكذا الخريف في السنة؛ وكما هي الكهولة في العمر.. هكذا هو الخريف؛ وكما هي حقبة التقهقر في الإمبراطوريات العظيمة.. هكذا هو الخريف. وربما هنالك مقاييس أخرى، لم ندرك كنهها بعد.
وهنالك من يعيش خريفين، خريف السنة وخريف العمر. كان أبو العلاء المعري فيلسوف العرب المغضوب عليه، رهين محبسين، وهناك على مر العصور من يعيش رهن الخريفين. وبعد ذلك هنالك من يعجب لسر الوجوم في هذه الأيام.


" وفي زحمة نباتات البر، ترتفع نبته العوصلان، شاحبة قد لا تلحظها، ولكنها عنيدة وشامخة"- في الصورة نبتة عوصلان في حرش هذا الأسبوع".
 

مقالات متعلقة