* إذا كان المفاوض الفلسطيني يشعر أنه الحلقة الضعف، فيجب تبديله
* لتقرير غولدستون أهمية فائقة، ليس من الناحية الأخلاقية، فالأخلاق هنا غائبة
* المفاوضات هي حاجة للشعب الفلسطيني، لأن هنالك الكثير من المستحقات التي يجب على إسرائيل دفعها في جميع المجالات الحياتية
-1-
ما هو تقييمك لذاتك؟ هذا هو السؤال في أي سجال. في غالب الأحيان تقييمك لذاتك يفرض على الآخرين تقييمًا مماثلًا. إذا شعر الخصم أن "وضعك مختلف" وأنك الوحيد الذي من الممكن إقناعه بالتنازل، فلن يجد سواك هدفًا للضغط عليه. وفي حينه أبلغني صديق بالمثل الشعبي المعبّر: "اللي متعود يركب على ظهرك.. كل ما يشوفك بتعب".
إذا كان المفاوض الفلسطيني يشعر أنه الحلقة الأضعف، فيجب تبديله. عملية التفاوض مع الفلسطينيين جاءت بالضبط لأنهم ليسوا ضعفاء. لو كان الفلسطينيون ضعفاء لمزقوهم إربًا. وفي هذا السياق نقول أن جوهر الصهيونية هو إنكار الحركة القومية الفلسطينية وليس التفاوض معها. وعلى المفاوض الفلسطيني الإدراك أن فلسطين قوية جدًا، بصمودها وبكونها مثلاً معنويًا وأخلاقيًا لمحبي العدالة والحرية في العالم. لو لم تكن كذلك، لأصبحت فلسطين في متاحف الحقوق المنقرضة للشعوب الضعيفة.
-2-
لتقرير غولدستون أهمية فائقة، ليس من الناحية الأخلاقية، فالأخلاق هنا غائبة. "ليس المهم ماذا يقول الأغيار"، قال بن غوريون، "المهم ماذا يفعل اليهود". قوة تقرير غولدستون، بأنه زوّد ضحايا العدوان على غزة، بسلاح هام لتقديم المجرمين للمحكمة. عندما وصل براك للندن جرت معه اتصالات مستعجلة لمغادرتها حالًا، لأن أمر توقيف محتملًا هدد حريته. وهنالك، الآن، عشرات من الجنرالات والسياسيين المهددين بالاعتقال جراء التقرير.
ولذلك، بالضرورة، سيؤدي هذا التقرير إلى زعزعة ثقة القيادة الإسرائيلية بنفسها لدى التفكير بشن عدوان جديد. هذا التقرير أتى ليؤكد أقوال غولدستون نفسه أن عدم معاقبة المجرمين سيفتح شهيتهم لارتكاب جرائم أكثر بشاعة.
-3-
من الممكن تخيل اجتماع يعقده الرئيس الأمريكي براك أوباما مع طاقم مستشاريه ومن بينهم وزيرة خارجيته، وفي الدقائق الخمس أو العشر، المخصصة للشرق الأوسط، من اجتماع مدته ثلاث ساعات مكرسة لمليون قضية أخرى، تقول كلنتون إن الهدف هو عقد اجتماع ثلاثي على هامش قمة الأمم المتحدة، والعقبة، تضيف كلنتون، هي رفض نتنياهو توقيف الاستيطان، ومع ذلك تؤكد كلنتون، أنه بموجب تقييمها فالحلقة الأضعف هم الفلسطينيون، وعليهم يمكن الضغط. وهكذا كان. لو كانت كلنتون تدرك أن الفلسطينيين لن يرضخوا، لما فكرت أصلًا بأن تضغط عليهم. هكذا هي الحياة؛ حين تظهر صلبًا توفر على نفسك ثلاثة أرباع محاولات الابتزاز والضغوط. بينما الشخص الضعيف، أو من يعتقد أنه ضعيف، فسيجلب كل ضغوط الدنيا عليه، وكل من "يشوفه.. سيتعب".
الاجتماع الثلاثي، الذي ظهر للعالم أنه شكلي، شكل انتصارًا معنويًا هائلًا لنتنياهو. بينما ما كان يهم أوباما، المشغول بقضايا أخرى أكثر مصيرية بالنسبة لمستقبله السياسي، هو أن يشير في قائمة مهماته بعلامة "صح" إلى جانب بند إنجاح اللقاء الثلاثي، ولا يهم إذا كان ذلك بالضغط على إسرائيل أو بالضغط على الفلسطينيين.
السؤال المطروح؛ ماذا كان سيحدث لو رفض عباس المشاركة في اللقاء؟ في أسوأ الأحوال ستنشب أزمة لبضعة أيام، وسيعمل الجميع على احتوائها، هذا إذا كانت مصلحتهم تقضي باحتواء الأزمة. أما إذا تعارضت المفاوضات مع مصلحتهم فسيجدون الأعذار لفضها حتى لو وقّع أبو مازن على برنامج الليكود.
من جهة أخرى فهذا الرفض الفلسطيني المؤدب، الذي لم يحدث للأسف، سيكون إشارة لأوباما ولنتنياهو وللعالم، أن هنالك خطوطاً فلسطينية حمراء، لا يمكن لأحد تجاوزها. وهذا الرفض، الذي لم يحدث، هام أيضًا لصورة أبو مازن أمام شعبه. وهو جيد، لو أنه قد حدث، أيضًا لمحبي السلام اليهود الذين راعهم صلف نتيناهو، والخضوع الأمريكي الفلسطيني له.
اليوم يحصد الفلسطينيون نتائج الخضوع للإملاء الأمريكي، فبعد "النجاح" المدوي في عقد اللقاء الثلاثي، جاء دور غولدستون.. ومع الطعام تأتي الشهية، فيُطالَب الفلسطينيون أن يغضوا الطرف عن جرائم قاتلهم و.. يوافق أبو مازن. مشهد من هذا النوع يمكن رسمه فقط في الخيال أو في مسرح العبث.
-4-
المفاوضات هي حاجة للشعب الفلسطيني، لأن هنالك الكثير من المستحقات التي يجب على إسرائيل دفعها في جميع المجالات الحياتية، من إدخال البضائع وحتى إزالة الحواجز وإطلاق سراح الأسرى وحتى الحل السياسي. وبطبيعة الحال مطلوب من المفاوض الفلسطيني، بعد كل جولة وجولة، التذكر بأن هنالك ألف عين عليه، وقسم من هذه الأعين، يهمهما تشويه صورة التفاوض من أساسه، فكم بالحري إذا كان هذا المفاوض لا يثق بمقدرات الشعب، من أصله.
وهنا نصل بيت القصيد: إن أداء المفاوض الفلسطيني، وربما بقصد، يرفع من شعبية معارضي المفاوضات. الأداء الفلسطيني الرديء في المفاوضات يقدم أكبر خدمة لصالح النهج الرافض للمفاوضات والنضال الشعبي؛ ستذهب حماس إلى الانتخابات التشريعية القادمة، وفي جعبتها تحرير عشرين أسيرة مقابل الكاسيت عن شاليط، وستمضي فتح للانتخابات وفي جعبتها انجازها المحزن، إيداع تقرير غولدستون على السدة، وتحرير مجرمي الحرب في إسرائيل من عاقبة ملاحقتهم ومعاقبتهم. أما في إسرائيل فسيقول نتنياهو لليسار: ماذا تريدون مني إذا كان أصحاب الشأن، أنفسهم، قد تنازلوا.
-5-
تقرير غولدستون، لم يُرعب القيادة الإسرائيلية فحسب، بل ألقى بظلاله المقلقة على عدد من دول العالم وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، حيال جرائمها في العراق وأفغانستان، وعلى الحكومة البريطانية، وكذلك فقد أرعب هذا التقرير أنظمة عربية حيال جرائمها البشعة ضد شعوبها وضد شعوب أخرى. ولذلك فصحيح ما تقوله السلطة أن هنالك أطراف دولية، ومنها عربية، أبدت التحفظ والرفض لمشروع القرار. صحيح.. ولكن السؤال المفصلي هنا، ردًا على هذه الحجة، لماذا يوافق الفلسطينيون أن يكونوا ورقة التوت لتغطية جرائم الأصدقاء، أو الأعداء. ماذا يقولون بالعبرية: "دعوهم يتعرّقون" جراء جرائمهم. هل أصبحت وظيفة المفاوض الفلسطيني التخفيف عن مجرمي الحرب، عربًا كانوا أم أجانب.
وأخيرًا، فالمفاوضات هي من أصعب أنواع النضال؛ إنها كما الرقص مع الذئاب، عين على مصلحة الشعب وعين على ألاعيب وغدر الطرف الجالس على الطرف المقابل للطاولة. والشعب الفلسطيني، عبر تجربته المرة لا يحمل الود لا للمفاوضات، وفي أحيان كثيرة، ولا للمفاوضين، وجذور ذلك عميقة جدًا منذ مطالبته بالركون إلى "حسن نوايا صديقتنا بريطانيا"، في ثورة الستة وثلاثين. واليوم، للأسف، فإن تصرف المفاوض الفلسطيني في الأسبوعين الماضيين، لم يحسّن لا صورة التفاوض ولا صورة المفاوض الفلسطيني. لقد أنتج مفاوضات سيئة السمعة.