* جاهة الصلح تتألّف عادةً، مِن "أهل الخير" مِن الرجالات الذين لهم احترامهم في المجتمع
* كلّما أسرعنا في التحرّك الجدّيّ زادت احتمالاتنا في منع، أو على الأقلّ في تقليص أعداد الجرحى والقتلى
* جاهة الصلح تلتئم بعد حدوث النزاع والجريمة في محاولة منها لاحتواء الحدث ومنع تفاقم الأوضاع. لكنّ لا يوجد لجاهة الصلح دور "وقائي" في المجتمع
* يصعب علينا اليوم، وبحقّ، الاعتماد على دولة إسرائيل في أخذ هذا الدور (فهي تمارس أشكالا مختلفة من العنف تجاهنا)، مع أنّ علينا ألاّ نعفيها من مسؤوليّاتها
عندما نراقب طرق علاج مجتمعنا للعنف، وخاصّة الذي يؤدّي إلى حادث قتل، نجد أنّ "جاهة الصلح" المحلّية و/أو القطرية تلعب دورًا رياديًّا في منع تدهور الأوضاع بين الأطراف المتحاربة (حمائل، عشائر، طوائف..). تتألّف جاهة الصلح، عادةً، مِن "أهل الخير" مِن الرجالات الذين لهم احترامهم في المجتمع. يبرز بشكل واضح حضور القيادات التقليدية، مثل المشايخ، في تركيبة هذه الجاهات، والذين يقومون بمهمّتهم هذه بشكل طوعي من خلال مساعيهم الحثيثة للتوصّل إلى هدنة، ثمّ إلى اتفاقية صلح بين الأطراف المتنازعة. بورك أهل الخير هؤلاء على مساعيهم. أسمح لنفسي بأن أجزم بأنّه لولا وجود هذه الجاهات لكان حمّام الدم أكثر دمويّة في مجتمعنا. هذا صحيح خصوصًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار غياب دور جدّي من طرف منتخَبينا وهيئاتنا التمثيليّة ومؤسّسات مجتمعنا المَدنيّ، من جهة، وغياب الدور الإيجابيّ والجدّي للدولة من الجهة الأخرى.
بالرغم من الدور الهامّ الذي تقوم به جاهات الصلح إلا أنّها لا تستطيع محاربة ظاهرة العنف المجتمعيّة. من أهمّ الأسباب لذلك:
1. تلتئم جاهة الصلح بعد حدوث النزاع والجريمة في محاولة منها لاحتواء الحدث ومنع تفاقم الأوضاع. لكنّ لا يوجد لجاهة الصلح دور "وقائي" في المجتمع من أجل منع حدوث أعمال العنف والقتل.
2. ينتهي دور جاهة الصلح بعد إبرام الاتفاق بين الأطراف المتنازعة. هذا الاتفاق هو مرحلة هامّة من مراحل فضّ النزاع، ولكنه لا يشكّل مرحلة أخيرة. مَن يقوم، على سبيل المثال، بتحسين العلاقات بين الأفراد من كلا الطرفين المتنازعين بعد عقد راية الصلح، وبشكل خاص بين الأفراد الذين لم يشاركوا بشكل مباشر في عمليّة الاقتتال؟ حتى اليوم لا يأخذ أيّ طرف هذا الدور على محمل الجدّ. لذلك، نجد أنّ النزاع بين الطرفين يتجدّد، في كثير من الأحيان، حتى بعد مرور سنوات، لأنّ "القلوب" ما زالت مليئة بالمشاعر السلبية.
3. جاهات الصلح تتعامل مع كلّ حدث على حِدة، ولا تتعامل بشكل نُظُمي مع كامل الأحداث ومع مجمل الظاهرة. وبذلك، يبقى تأثيرها محصورًا في إطار الحدث الواحد. من الملاحظ، في هذا السياق، أنّ العدد المتزايد للنزاعات وحوادث القتل بدأ يُرهق أهل الخير ولجان الصلح.
4. في اتفاقية الصلح تلتزم, بشكل عام, كل حمولة/عشيرة/طائفة الطرف المعتدي/القاتل بدفع "ثمن" الصلح. يَدفع هذا "الثمن" حتى الأفراد والعائلات الذين لم يكُن لهم ضلعا في الاقتتال. لهذه الخطوة أبعاد سلبيّة جدّا لا مجال للغوص فيها هنا.
على ضوء ما ورد أعلاه علينا، كمجتمع، أن لا نستمرّ في الاعتماد شبه الكلّيّ على جاهات الصلح في محاربة ظاهرة العنف. يصعب علينا اليوم، وبحقّ، الاعتماد على دولة إسرائيل في أخذ هذا الدور (فهي تمارس أشكالا مختلفة من العنف تجاهنا)، مع أنّ علينا ألاّ نعفيها من مسؤوليّاتها. يقع الدور الأساسيّ، حسب رأيي، على عاتق منتخَبينا وهيئاتنا التمثيليّة المحلية والقطرية ومؤسّسات مجتمعنا المَدني، الذين اختاروا، حتى هذه اللحظة، عدم أخذ دور قياديّ على أرض الواقع في محاربة ظاهرة العنف. ليس هذا هو الوقت لتحليل الأسباب، بل إنّه وقت الدفع للعمل ولتقديم الاقتراحات العمليّة. وعليه، أقترح:
1. أن تقوم الأطراف المذكورة أعلاه، بالتعاون مع جاهات الصلح ومع ممثّلين عن مجموعات مختلفة من المجتمع مثل الشباب (الطلاب الثانويين والجامعيين والشباب العامل..) والأهل والمؤسّسات التربوية وعلى رأسها المدارس، ببناء هيئة قطريّة وهيئات منطقيّة ومحليّة هدفها محاربة ظاهرة العنف والوصول إلى "السلام المجتمعيّ".
2. الإعلان عن موضوع العنف والوجه الآخر للعملة "السلام المجتمعي" كموضوع في أعلى سلّم أولويّاتنا. يرتكز "السلام المجتمعي" على قيم مثل قدسيّة حياة الإنسان والمساواة والعدل والحوار وحريّة التفكير والتعدّدية، بجميع مستوياتها.
3. إيجاد التوازن الصحيح في تعاملنا مع القضايا التي تتعلّق بعلاقاتنا مع الخارج، وخاصّة مع دولة إسرائيل والأكثريّة اليهودية، في مقابل تعاملنا مع قضايانا الداخليّة (مع أخذ التداخل بين الدوائر المختلفة بعين الاعتبار). وكما أسلفت في مقالتي الأولى، نحن نميل إلى التهرّب من التعامل مع قضايانا الداخليّة.
4. أن تكون قيادات الهيئات المقترحة أعلاه نموذجًا إيجابيًّا يُحتذى به في التعامل والقيادة. وعليه، على هذه القيادات أن تتحلّى بقيم وسلوكيّات الحوار والتعدّدية وغيرها.
5. بناء ميثاق أخلاقيّ مجتمعيّ يحدّد، بشكل أساسيّ، القيم والأسس التي يُبنى عليها "السلام المجتمعي". يكون هذا الميثاق بمثابة مرجعية أخلاقيّة لنا كمجتمع ومجموعات وأفراد ومؤسّسات، ونعود إليه كلّما ظهرت اختلافات في الرأي قَبلَ أن - وكي لا - تفسد هذه الاختلافات للودّ قضيّة.
6. بناء رؤيا وخطّة إستراتيجيّة قطريّة ورؤى وخطط إستراتيجية منطقيّة ومحليّة واضحة المعالم للتغلّب على العنف والوصول إلى "السلام المجتمعي". تنطلق كلّ هذه من قيم الميثاق الأخلاقيّ. في بناء الخطط الإستراتيجية، علينا تَبَنّي توجّه نُظُميّ يأخذ بعين الاعتبار العوامل المختلفة (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسيّة..) الداخليّة والخارجيّة التي تؤثّر علينا وعلى أنماط تفكيرنا وسلوكيّاتنا.
7. تخصيص الموارد البشريّة (التطوّعيّة ومدفوعة الأجر) والمادية اللازمة من أجل تحويل الرؤيا والخطط الإستراتيجية إلى برامج تنفيذية مؤثّرة. سنحتاج إلى موارد ضخمة جدّا في هذه السيرورة. من المهمّ، في هذا السياق، أن تشارك مؤسّساتنا المختلفة، بشكل جدّيّ، في توفير هذه الموارد. هذا سيُعبّر عن التزامها الفعليّ بالقضيّة. علينا، برأيي، أن نبحث، أيضًا، عن موارد إضافية من داخل مجتمعنا الفلسطينيّ والعربي العامّ (تبرّعات من الناس ومن القطاع الخاصّ ومن جهات مانحة)، قبل التوجّه إلى جهات غير عربيّة.
8. فحص ما إذا كنّا بحاجة لبناء مؤسّسات جديدة هدفها معالجة العنف الداخليّ في مجتمعنا والوصول إلى "السلام المجتمعي".
9. الدمجُ ما بين العلاجيّ والوقائيّ في المرحلة القادمة. علينا أن نكون واقعيين وأن نفهم أنّنا، وللأسف، سنشهد في السنوات القادمة أحداث عنف وقتل بين العصبيّات المختلفة. وبناءً عليه سيستمرّ الدور الهامّ لجاهات الصلح بالتعاون مع المؤسّسات المعنيّة الأخرى المذكورة أعلاه. أقترح تطوير البرامج لمتابعة العلاقات بين الأطراف المتنازعة من النقطة التي وصلت إليها جاهة الصلح والمتمثلة بإبرام اتفاقيّة الصلح بين الطرفين. بموازاة هذا الجانب العلاجيّ علينا أن نطوّر البرامج الوقائيّة المختلفة (على مستوى البيت والمدرسة وغيرها) من أجل الحدّ من ظاهرة العنف ومن أجل بناء "السلام المجتمعي".
10. بالنسبة لجاهات الصلح، علينا كجزء من رؤيتنا وخطّتنا الإستراتيجية المستقبليّة أن نتطلّع إلى تقليل الحاجة إليها والتمكّن في يوم من الأيّام من الاستغناء عنها، وذلك بعد أن نصل إلى وضع ننجح فيه في إبقاء دائرة النزاع داخل حلقة الأفراد المتنازعين فقط.
11. تحديد الأدوار التي نتوقّعها من المؤسّسات الحكوميّة في معالجة ظاهرة العنف، وخاصّة الجهات التي عليها أن تحافظ على الأمن والقانون. بعد ذلك، علينا أن نضغط على هذه الأطراف لكي تقوم بدورها المنشود.
الوقت ليس في صالحنا، وعلينا عدم تضييعه لأنّ الثمن واضح. كلّما أسرعنا في التحرّك الجدّيّ زادت احتمالاتنا في منع، أو على الأقلّ في تقليص أعداد الجرحى والقتلى.