- آمال عوّاد رضوان:
* الشّاعرُ الفلسطينيُّ في الدّاخلِ امتطى صهوةَ ثقافتِهِ وما ترجّلَ عنها رغمَ الاختناقِ وضيقِ التّنفّس
* الشّاعرُ الفلسطينيُّ إنسانٌ اعترَكتْهُ الظّروفُ فعايشَ القهرَ وتدرّبَ كيفَ يعتلي سُحُبَ الخيالِ والتّصوّر
محاصرٌ بينَ قضبانِ الاحتراق
لا زالَ يافعًا يانعًا، لا تعرفُ أجنحتُهُ الوهّاجة ذبولاً، رغْم أنّهُ محاصرٌ بينَ قضبانِ الاحتراق، في مِرجلٍ تُزوبعُ به متاهاتُ الدّروب، وذلك؛ لِما تميّز بهِ مِن عذوبةِ موْسقتِهِ وشجنِهِ!
كمثلِ حاكورةٍ صغيرةٍ، ملآى بكلِّ أنواعِ الأشجارِ المثمرةِ وأشجارِ الزّينةِ بسياج صبّارِها؛ حاكورةٌ ترعرعتْ وسطَ غابةِ الاستبدادِ وأدغالِ الاحتلالِ وأحراشِ القهرِ!
الشّعرُ الفلسطينيُّ في الدّاخل
حاكورةٌ نما في أحواضِها الوجعُ، وفي أحضانِها التحدّي، فدُمّرَ كثيرٌ من أعشاشِها، وهُجّر كثيرٌ من أطيارِها دون أرياشِها، في منافي الشّتاتِ والضّياع والفراغ، بلا أرض ولا سماءٍ وبلا هويّة!
إنّهُ الشّعرُ الفلسطينيُّ في الدّاخل؛ راسخُ الجذورِ منذ الجيلِ الأوّلِ، وقد اتّجهَ مؤشّرُ بوصلتِهِ صوْبَ مكانةٍ مرموقةٍ في الشّعرِ العربيّ والعالميِّ!
الشّاعرُ الفلسطينيُّ تفاعَلَ معَ العالم الخارجيِّ
الشّاعرُ الفلسطينيُّ في الدّاخلِ امتطى صهوةَ ثقافتِهِ وما ترجّلَ عنها، رغمَ الاختناقِ وضيقِ التّنفّس، بل شنّ وعيَهُ وأدواتِهِ اللّغويّةَ اللاّهبةَ ضدّ مذابح الغزو، وضدّ حصْرِهِ في قواقعِ الطّائفيّةِ والأقليّةِ العربيّةِ في دولةٍ يهوديّةٍ، فعايشَ البيئةَ الجديدةَ وواكبَها بالمواجهةِ، وتصدّى لمحْوِ ذاكرتِهِ التّراثيّةِ وتاريخِ حضارتِهِ!
الشّاعرُ الفلسطينيُّ تفاعَلَ معَ العالم الخارجيِّ، ولم يكن رهينَ شعرِ المقاومةِ، كما أطلقَ الأديبُ غسّان كنفاني، ورغمَ المآسي التي يكابدُها، ما تنازلَ عن ثوابتِ وكواشينِ حواكيرِهِ، ولم يقتصرْ شعرُهُ على النّدبِ والشّجبِ فحسْب، إنّما أثمرتِ الحواكيرُ الفلسطينيّةُ ما لذَّ وطابَ مِن شعرٍ شعبيٍّ وفصيحٍ بليغٍ، يتحدّثُ فيهِ عن الحنينِ والغربةِ والمقاومةِ والتّحدّي، والحُبِّ والعِشقِ وجَمالِيات الحياةِ والمشاعرِ الإنسانيّةِ، وتعميقِ الحياةِ وتجميلِ الوجودِ وبناءِ المستقبل، من خلالِ مساحاتٍ فكريّةٍ شاسعةٍ، وانتماءاتٍ ثقافيّةٍ مختلفةٍ وبشتّى الرّؤى.
فِكرٍ وتحريضٍ يُعارضُ سياسةَ التّهويدِ
الشّاعرُ الفلسطينيُّ إنسانٌ اعترَكتْهُ الظّروفُ فعايشَ القهرَ، وتدرّبَ كيفَ يعتلي سُحُبَ الخيالِ والتّصوّر، ليُحلّقَ بأجنحةِ التّصويرِ والإبداعِ، كي يخلقَ عالمًا أجملَ مِن الحقيقة، لذا تفاعلَ معَ البيئةِ والحياةِ وظروفِها وتفاصيلِها اليوميّة بمنتهى الحساسيّةِ الإبداعيّة، وكانَ لشعرِ المقاومةِ أن يتصدّرَ المشهدَ الشّعريَّ مِن أجلِ التّحريرِ والحرّيّة المنشودَيْن، ففرَضَ نفسَهُ إعلاميًّا، وتجلّى بشكلٍ بارزٍ بما يتوافقُ والحالة الرّاهنة التي استمرّتْ واستدامتْ، وقد تُرجمَ كثيرٌ مِنَ الأشعارِ للعبريّةِ ولغاتٍ أخرى، ولوحِقَ بعضُ أصحابِها، لِما تحملُهُ مِن فِكرٍ وتحريضٍ يُعارضُ سياسةَ التّهويدِ المفروضة، وبسببِ الانتماءاتِ الحزبيّةِ، في ظلِّ غيابِ الوطنِ وسيادتِهِ الفلسطينيّة.
فلسطينيّو إسرائيل ينفون التّهمةَ المُوجَّهةَ إليهم
مِن شعرائِنا مَن سطعَ نجمُهُم وحضورُهُم في وسائلِ الإعلامِ الحزبيّة، وتركَ بصمةً زيتيّةً في الذاكرةِ الثقافيّة، وأثرًا محفورًا في سنديانِ المهرجاناتِ الثّوريّةِ والاحتفالاتِ الشّعريّةِ التّحميسيّةِ، ومنهم مَن خفَتَ نجمُهم حدَّ البصيص، وما عُرف قدْرُهم وما نالوا حقّهم، فقد توهّجَ بينَ سُحُبِ السّماءِ مَن توهّج، وناسَ بينَ الغيومِ مَن وشّحتْهُ بضبابِها، وقد حوكِم الإبداعُ الأدبيُّ حزبيًّا وسياسيًّا، وبكلِّ أسفٍ، ظلّتْ تخضعُ ثقافتُنا للامتحانِ وإثباتِ الوجودِ والحضورِ، وبقيتْ رهينةً تستعطفُ الودَّ العربيَّ حتّى اليوم، ويحاولُ فلسطينيّو إسرائيل أن ينفوا التّهمةَ المُوجَّهةَ إليهم، كي يُثبتوا أنّهم أبرياء مِن دمِ المبايعةِ أو التّسليمِ والاستسلام، وأنّهم عربٌ أقحاح ما تهوّدوا ولا تطبّعوا ولا تأسرلوا!
وفي ظلِّ التّهميشِ العربيِّ للمأساةِ المستديمةِ العليلةِ، غدا فلسطينيّو إسرائيل ضّحيّةً مفخّخةً موقوتةً، ومُعلّقةَ خارجَ الأحداثِ التّاريخيّةِ والخرائطِ الجغرافيّةِ، فهم الضّحيّةُ الموصومةُ بختمٍ إسرائيليٍّ ينبغي التخلّص منه أو تذويبه، وهكذا؛ بُتِرَ شعبُنا عن شقيقِهِ الآخر في الضّفّةِ وغزّة، واستُبعِدَ عن الأمّةِ العربيّةِ وسياساتِها في صُنعِ القرار، كأنّما توقّفتْ عجَلةُ التّاريخِ عند شرْخِ النّكْبةِ دونَ حَراكٍ عربيّ مُسانِد!
مهمّةٌ شاقّةٌ
وكانَ للجيلِ الأوّلِ مهمّةٌ شاقّةٌ مِن خلالِ الإبداعِ الفلسطينيِّ، هو خلْق نموذج مقاومة، مِن خلال الكلمةِ الحادّةِ اللاّهبةِ، والنّاقرةِ على شريانِ وجعِ المنكوبِ ونبض معاناةِ الشّعب، إلاّ أنّ البعضَ دخلوا في مرحلةِ الاجترارِ والتقليدِ للنّموذجِ السّابق، والبعضَ لا زالَ قادرًا على تشكيلِ رؤًى فكريّةً ناضجةً مستحدثة، وإبداعيّةً متميّزة بفنّيّتِها، وبمستوًى عربيٍّ عالميٍّ، وتستمرُّ حربُ الحَرْف!
هل يجهلُ المحتلُّ ما للإعلام الوطنيّ بشتّى وسائلِهِ وتقنيّاتِهِ من دورٍ رئيسيّ هامٍّ في دعْمِ الهويّةِ الوطنيّةِ، ومن محاربةِ النّزعاتِ الطّائفيّةِ، ومن نَشْرِ الثّقافةِ المستقِلّةِ وتعزيزِ الثّقةِ والانتماءِ الوطنيِّ والقوميّ؟
وهل يخفى على المثقّفِ الواعي تأثيرُ الإعلام، وحضورُه الفعّالُ المباشرُ محليًّا وعربيًّا وعالميًّا، وفي إعطاءِ المبدعُ فرصَ تطويرِ إمكاناتِهِ الأدبيّةِ والإبداعيّةِ، دونَ الولاءِ لجهةٍ ما أو حزبٍ داعم؟
طبعا لا، إنّما حُكم القويّ السّائد الجائر حجّمَ وقلّصَ للشّعبِ الأعزل إمكاناته التقنيّة التثقيفيّة، لكنّه ما استطاع أن يثبط العزيمةَ والهمّة في النّضالِ الواعي، أو يحبطَ التصدّي العنيد، من أجلِ الحفاظِ على الكيانِ الفلسطينيِّ العربيِّ لغةً وحسًّا وانتماءً، دونَ تهجينٍ أو تذويب.
واحةَ شّعرِ فلسطينيّةِ زّاهيةِ
لكن؛ وبسبب توقّفَ الاهتمامُ والإعلامُ العربيُّ فقط عندَ أسماء محدودة مِن أدبائِنا، ونماذجَ قليلة مِن شعرائِنا، مَن بيعتْ وسُوّقتْ وتُرجمتْ وانتشرتْ كتبُهم في المكتباتِ العربيّة، ونالَ أصحابُها حصّةَ الأسدِ في تلقّي الدّعوات والمشاركةِ والانتشار عربيّا وعالميّا، وبسببِ غيابِ التّنظيماتِ الثّقافيّةِ والأدبيّةِ الوطنيّةِ المحَلّيّة المُحارَبة صهيونيًّا، فقد تولّدتْ أزمةُ غيابِ النّقدِ الحقيقيِّ الموضوعيِّ المَحلّيِّ والعربيّ، فهيّأتْ مناخًا تسودُهُ الشّلليّةُ المُتسلّقةُ البارزة، والّتي أركنتِ المواهبَ والتّجاربَ الأدبيّةَ المتميّزةَ في هوامشِ الإبداعِ، فكساها غبارُ الإهمالِ والإحباطِ دونَ تسويقٍ، بل عمدتْ على ترويجِ الرّديءِ بدلاً مِنَ الأجوَد.
وها هي واحةَ الشّعرِ الفلسطينيّةِ الزّاهيةِ لا زالتْ تزهرُ وتُثمرُ وتُظلّلُ، وتفوحُ أزاهيرُها في صحراءَ تكثرُ فيها الرّمالُ المتحرّكة لتبتلَعها، حيثُ تنعقَ فيها الأبواقُ المشبوهةُ والهِممُ الوصوليّةُ، الّتي تنعفُ الرّمالَ الحارّةَ في عيونِ المبدعينَ والمثقّفينَ والقرّاءِ والبسطاء.
مستوى فرديٍّ وليس جماعيٍّ ووطنيٍّ
إضافةً إلى الشّبكةِ العنكبوتيّةِ التي لعبتِ دوْرًا هامًّا في كسْرِ الحواجزِ الجغرافيّةِ والحدودِ السّياسيّةِ المفروضة، في السّنواتِ العشرِ الأخيرةِ، كما وساعدتْ في انتشارِ الثّقافةِ الرديئةِ والجيّدة، ولكن على مستوى فرديٍّ وليس جماعيٍّ ووطنيٍّ، وهذا شقٌّ آخر من المأساةِ التي توالتْ أكثرَ من ستّة عقود!
وتاريخيًّا؛ ابتدأتْ معاناةُ الوسطِ الثّقافيّ المَحلّيِّ منذ أحداثِ النّكبةِ، بعدَ إغلاقِ المؤسّساتِ الثّقافيّةِ الفلسطينيّةِ في حيفا ويافا، اللّتيْن كانتا محطّتيْنِ هامّتين أسوةً بالعواصم العربيّة، ففي حين استقطبتا أمّ كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش والكثيرَ مِن الأدباءِ والمثقفين، وزخرتا بالمقاهي الأدبيّةِ والفنادقِ والمطابع والصّحفِ والمسارحِ والنّشاطاتِ الثّقافيّةِ المختلفةِ، وعلى مستوى عربيٍّ يُضاهي بغدادَ والشّامَ والقاهرة ثقافيًّا وحضاريًّا وتجاريًّا، فقد هُجِّرَتْ نُخَبُ شعبِنا المقتدرينَ ثقافيًّا وماديًّا، وهُدّمتِ المراكزُ الثّقافيّة، واعترى البلادُ شللٌ مؤسّساتيّ ثقافيٌّ وتفكّكاتٌ تنظيميّة، فقد صارتْ بلادُنا عبارةً عن قرى صغيرةٍ وكبيرةٍ، تفتقدُ إلى معالم المُدنِ المدنيّةِ والإبداعيّة، وتفتقرُ إلى مؤسّساتٍ وطنيّةٍ ثقافيّةٍ متطوّرة! فهل يُعيدُ الفلسطينيّونَ مجْدَ حيفا العتيق ومناخ عكّا المائج وميناءَ يافا الغابر؟ كيف؟ متى؟ ومِن أيّةِ منطلَقاتٍ يمكن أن تتجاوزَ المِحنة؟