- أبرز ما جاء في المقال :
* لا يستطيع أحد من العرب أن ينكر أن العرب عجزوا عن تجاوز حدود الإستنكار في مواجهة كل التحديات المذكورة
* لم تجد هذه الأنظمة حفاظا على كيانها إلا أن تزين عجزها من خلال الاستثمار غير المشروع وغير الأخلاقي لقيمتي الحكمة والواقعية
الحكمة والواقعية قيم عليا تشكل الأساس للتوازن المطلوب في حياة الناس أفرادا وجماعات . إنها النظر إلى الأشياء بتجرد بعيدا عن الأهواء والنزوات ، ونظر في المسائل بوعي كامل متحرر من أغلال الهوى وضغوطات الواقع . إلا أن الحكمة والواقعية كغيرها من المجموعات القيمة والأخلاقية العظمى يمكن أن تكون ضحايا مباشره لممارسة الناس على إختلاف مللهم ونحلهم ، أو غطاءً لعجز وخنوع أمم بكاملها حينما لا يكون لها من أمل في مواجهة التحديات بالندية المطلوبة ، وحينما تتخلف عن مواكبة ركب التطور الحضاري والمدني المتسارع .
( 1 ) إمتداد تاريخ الصراع
تعودت أنظمتنا العربية والإسلامية على إمتداد تاريخ الصراع في المنطقة منذ قرن تقريبا على تغليف هزائمها وانكساراتها في مختلف الميادين بأقنعة تحاول عبثا إخفاء تشوهاتها الخِلْقِيَّةَ ، وتراكمات عجزها وفشلها وبشاعات خضوعها وخنوعها ... فبدل أن تعترف هذه الأنظمة بشللها التام وباندحارها الكامل ، وتتحمل المسؤولية وتُخْلي مكانها لقيادات جديدة يختارها الشعب عن وعي وقناعة ، نجدها تزداد شراسة في تمسكها بتلاليب السلطة ، وتمضي في طريقها محطمة وبأحذية ثقيلة أحلام شعوبها وطموحاتهم ، ساحقةً في طريقها طاقات الأمة وكفاءاتها ، مبعثرةً لكل قدراتها وإمكانياتها ، وعاجزةً عن تمثيل قضاياها والتعبير عن أوجاعها وآمالها .
أنظمة تحافظ على كيانها
لم تجد هذه الأنظمة حفاظا على كيانها إلا أن تزين عجزها من خلال الاستثمار غير المشروع وغير الأخلاقي لقيمتي الحكمة والواقعية ، وإلْباسِ استمرارها في السلطة بثوب الشرعية تماما كما فعل ( عمرو بن لحي ) زعيم مكة العربي في الماضي السحيق عندما جاء بالصنم ( هوبليوس /هبل ) من الشام طمعا في الشفاء من مرضه ، فبدل أن يضعه في بيته ويعكف على عبادته وحده ، وخوفا من إتهامه بالخَبَلِ والجنون وفقدان أهلية الحكم والسيادة في مكة ، كان لا بد من إلباس هذا الصنم المخالف لعقيدة العرب حتى ذلك الوقت ، والمهدد لصفاء نفوسهم ونقاء عقولهم وإستقرار أوضاعهم ، من إلباسه لباس الحكمة والواقعية والشرعية . لتحقيق هذا الهدف كان لا بد من تحرك جرئ وخبيث ، فكان أن وضع زعيم مكة هذا الصنم في قلب الكعبة قدس أقداس العرب . كما وجَنَّدَ لحماية هذا الاختراق الخطير لثوابت الأمة حشدا من المنتفعين وأبواق الدعاية للترويج لهذه البدعة الخطيرة ، لكنه لم ينسى كعادة الأنظمة التي لا تقيم وزنا لشعوبها ، أن نجاحه مرهون بتحريكٍ متوازي لأجهزته العسكرية والمخابراتية ، وتشغيلٍ لإمكاناته المادية ترغيبا وترهيبا ، وتسخيرٍ لإمكانات النظام السياسية إبْعاداً وتقريبا . لقد حقق ( عمرو بن لحي ) أهدافه كلها ، فما أن بُعِثَ الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كان حول الكعبة ما يزيد على الثلاثمائة صنم يعبدها الناس من دون الله دون وعي ولا عقل.
( 2 ) حراسة الحدود الوطنية ومصلحة الأمة
لقد نجحت الأنظمة العربية فيما نجح فيه ( عمرو بن لحي ) قديما ... فكم من الأصنام المعنوية اليوم أدخلها القادة العرب إلى بلادهم تحت مختلف اليافطات كالمعونات الأمريكية ودعم بنك النقد الدولي ، والإنفتاح ، وتطوير المناهج ، وحماية الأمن القومي ، وحراسة الحدود الوطنية ومصلحة الأمة ، لا من أجل مواجهة الأعداء الحقيقيين وممارسة دور أكثر فاعلية لتحقيق الحقوق وردع العدوان من أي مصدر كان ، ولكن لحماية العروش وملئ (الكروش ) . كم ضُيِّعَتْ من الحقوق وكم سالت من الدماء ، وكم أزهقت من ألأرواح ، وكم أحتلت من ألأراضي وأهينت من مقدسات ونهبت من ثروات ، دون أن تتحرك في هذه الأمة كوامن العزة والإباء التي تتجاوز بها حدود أطنان الإستنكارات والشجب والإدانة التي مللناها وملتها الشعوب الإسلامية من جاكارتا الى طنجة ، ومن فرغانه إلى غانة .
نتابع جميعا المشاهد المسرحية للاجتماعات الدورية لوزراء الخارجية العرب والمسلمين وللقاءات القمم العربية والإسلامية التي تنعقد بين فترة وأخرى ، وما ينشب فيها من صراعات ثأراً لكرامة دولة أو زعيم ، بينما لا يثور أحد - إلا من رحم الله - دفاعا وثأرا لمآسي العرب المسلمين ولدمائهم المسفوحة على كل أرض ومستقبلهم المهدد في كل ميدان وعلى كل صعيد .
مواجهة الأحداث والتطورات
الكل يتحدث عن الحكمة في مواجهة الأحداث والتطورات ، والكل غارق في حب الواقعية في التعامل مع التحديات الراهنة ، وهذا حق لا خلاف عليه ، ولكن ألا نعتقد أن حديث العاجز عن الحكمة والخانع عن الواقعية ، هو في الحقيقة مدعاة للسخرية ومجلبة للعار والشنار . ألم يكن موقف النظام العربي الرسمي في أغلبيته حيال حرب إسرائيل على لبنان 2006 ، وغزة العام 2008 / 2009 ، دليلا على أن للواقعية عندهم معنى مميزا لا يليق إلا بهم ؟؟!! هل يستطيع أحد من قادة العرب والمسلمين الذين يتحملون أمانة التمثيل والدفاع عن حقوق الأمة المستباحة أن يحدد لنا موقفه حيال القضايا التالية ، أولاً ، استمرار إسرائيل في سياساتها العدوانية ضد الفلسطينيين وتنفيذها لأخطر خططها ضدهم من حصار وإغلاق وقتل وتشريد وإبادة وتجويع ومصادرة للأرض والمقدسات وتدمير لمجمل الإنجازات التي تمت في عقود طويلة . ثانياً ، التهديد الإسرائيلي المستمر لسوريا ولبنان وإيران وتركيا ، والتلويح بإستعمال ترسانتها الحربية لأي سبب تراه مناسبا . ثالثاً ، التهديد الأمريكي لوجود الأمة العربية والإسلامية ولإمكانتها ، وإعلان أمريكا الحرب على الإسلام والمسلمين في كل أنحاء العالم سراً وعلانية ، في الوقت الذي أفلتت فيه الزمام لحكومة إسرائيل أن تفعل ما تشاء على الساحة الفلسطينية والعربية دون الخوف من أحد أو خشية أحد ، خصوصاً بعد أن أصبحت الهيئات الدولية جزءاً من البيت ألأبيض ووزارة الدفاع الأمريكية . رابعاً ، الخطط الإسرائيلية حيال خططها الخبيثة لتهويد القدس ومحاصرة الأقصى حتى انهياره ، وبرامجها التي لا تتوقف لتفريغ المدينة المقدسة من أهلها وخصوصا القياديين منها كالنواب الإسلاميين : أبو طير وعرفة وطوطح وعطون وآخرين ، وغيرها من القضايا الساخنة الوطنية والقومية ؟؟؟!!! ...
( 3 ) ما أعظم الحكمة حينما تكون صادرة عن قوي
لا يستطيع أحد من العرب أن ينكر أن العرب عجزوا عن تجاوز حدود الإستنكار في مواجهة كل التحديات المذكورة ، رغم تسارع الأحداث في غير صالحهم ، فإن عجزهم في تصاعد هو ايضاً بشكل أصبح الحديث عن الحكمة والواقعية أمراً مستهجناً وغير حكيم وغير واقعي. ما أعظم الحكمة حينما تكون صادرة عن قوي ، وما أعظم الواقعية حينما تكون منطق العزيز والأبي . نقول هذا والعالم يحبس أنفاسه منتظراً ، ما سيكشف عنه القدر من فصول جديدة في حياة شرقنا العربي والإسلامي في المرحلة القادمة ...