الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 26 / يونيو 10:01

إياد برغوثي يكتب على صفحات العرب: بين حارقين

كل العرب
نُشر: 24/01/11 17:30,  حُتلن: 08:10

إياد برغوثي:

اعتقدت في البداية أن الشاب التونسي، بائع الخضار والفواكه الذي أحرق جسده أمام الناس بعد أن منعته الشرطة من العيش بكرامة، سيُنسى

لقد نزل الشباب إلى الشارع وتحدوا

كانوا جسدًا حاضرًا ملتهبًا ومثابرًا وعيون تبرق بالحق والجرأة

التغيّير يأتي عندما يستعيد الناس المكان والذاكرة والثقة، ويحرقوا معابد التخلّف والسيطرة

(1)هيروسترات
شاهدت مساء الأربعاء قبل الماضي مسرحية "حارق المعبد"، في مسرح الميدان في حيفا، والحق أقول لكم، إنني لو كنت قد أطعت أصوات "قلّة الخواص"، التي يعلو تأففها وتزداد حججها في الشتاء، وتمددت على كنبة البيت ملفوفًا بلحاف عنّابي اللون رفيع، لندمت شرّ ندامة.
لم أحرق وقتي، بل تلقفت نارًا من خشبة المسرح أشعلت منطادًا شخصيًا طرت فيه إلى عالم مختلف مشابه، يختلف في الأسماء الإغريقية ويتشابه في جوهر الصراعات الاجتماعية الإنسانية، عالم مشوّق وممتع، احترمني وأضحكني ووّترني، وحفّزني على البحث عن حقيقة أخرى غير التي أعتقد للوهلة الأولى أنها الحقيقة.
اعتقدت في البداية أن "هيروسترات"، بائع السمك البسيط والمحنّك بطل مسرحية "حارق المعبد"، أراد فقط أن يذكٌره الناس ويردّدوا اسمه ويخلّده التاريخ كونه حارق معبد "أرتيميدا"، أكبر وأعظم المعابد الإغريقية، وأنه نرجسي أراد مجدًا خالدًا ولم يأبه بالموت، رغم تحايله عليه.
لكن المونولوج الأخير، الذي يقوله هيروسترات لأمير مدينة "إيفيس"، كشف بعمق عن دافع فعلته التي هزّت أركان العالم في حينه، فقد دفعته قناعته بزيف الأساطير الغيبية للآلهة إلى أن يقدّم نفسه قربانًا للحقيقة، وأن يرى نفسه كفردٍ أقوى من كل الآلهة والعرافات والسلطة وأذكى منهم، تحداهم بنار فضحت غياب الآلهة عن واقع البشر وأشعلت بقلوب الناس البسطاء ثقة بالنفس، وأخضعت مصائر حياتهم (وموتهم أيضًا) إلى سيادة القانون رغم فساد وتآمر الحكّام.
مسرح تنويري، فليكن هكذا دائمًا.
(2)البوعزيزي
اعتقدت في البداية أن الشاب التونسي، بائع الخضار والفواكه الذي أحرق جسده أمام الناس بعد أن منعته الشرطة من العيش بكرامة، سيُنسى وأن المظاهرات التي جابت هوامش تونس بعد مأساته ستقمع بسهولة وستعود المياه إلى مجاريها لتطفئ النار وتطمس الناس. لكن جسده الذي احترق أحرق معه النظام المستبّد، وكانت المشاهد الأخيرة من تراجيديا "حارق الجسد" ذات إيقاع سريع.
أميل إلى الاعتقاد أن محمد البوعزيزي لم يكن يحلم أن يخلّد اسمه، ولم يأمل في أن يطرد جسده المحروق طاغية من قصره، لكنه قدّم نفسه قربانًا ولم يأبه بالموت، واسمه يتردّد كونه الشرارة التي حرّرت وطنه، إن البوعزيزي هيروسترات معاصر، علينا أن نحفظ اسمه ونحزن عليه.
لقد حرق البوعزيزي معبد الخوف من آلهة الحكم، الذين تدعمهم القوى المنافقة في العالم "الحر" وقوى الأمن والأعمال في كل قطر، لقد جسّدت النار الممتدة من الجسد المحروق في تونس بيت شعر خطّه تونسي وأنشدناه في كل مظاهرة (وردّدناه مؤخرًا عند تعليقنا على ثورة "الياسمين"): "إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر".
لقد نزل الشباب إلى الشارع وتحدوا، لم يضعوا "أتيندنغ" على صفحة المظاهرة على الفيسبوك، بل كانوا جسدًا حاضرًا ملتهبًا ومثابرًا وعيون تبرق بالحق والجرأة. التغيّير يأتي عندما يستعيد الناس المكان والذاكرة والثقة، ويحرقوا معابد التخلّف والسيطرة على الروح والجسد والفكر.
ما حرّر تونس هو المشاركة الفعلية للشعب الذي ضاق ذرعًا في لحظة حاسمة، البوعزيزي كان تعبيرًا عن عدم القدرة على تحمّل القهر أكثر، الحلّ لا يكمن في حرق الأجساد (كما يفعل شباب في الجزائر ومصر مقلدين لبوعزيزي)، بل في تحرير الإرادة الجماعية من قيود التفرقة والخنوع.

مقالات متعلقة