الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 10 / نوفمبر 05:02

صبري محمد جبارين:أرصفة شوارع العمر

كل العرب
نُشر: 19/03/11 15:21,  حُتلن: 08:25

وأنا جالس هناك والهواء يداعب أطراف وجهي، وعيناي محدقتان في السقف تمران ذهابا وإيابا وكأنهما يمسحان المنطقة أجمع لتذكرها وتذكر تفاصيلها طيلة الحياة... كانت هناك كل النوافذ مغلقة إلا نافذة واحدة وهي نافذتي... استفقت للحظة وكلي منهك من تعب يوم طويل، وفقط عندما صعدت درجات القطار الواحدة تلو الأخرى، عندها فقط اطمأن فؤادي أن هذا اليوم قد ولّى وبات من الماضي... كم كان يوم عمل مضن ومتعب للبال وللجسم وللفؤاد، لكن ولله الحمد ذهب ذلك وانتهى كأمثاله من الأيام والليالي...
كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة عصرا وكأنها فم فاغر يتثاءب تحضيرا لنوم قصير مسافة الطريق وصولا إلى البيت... خيّل لي أن الزمان توقف هناك في المقطورة، عندما تذكرت أنه مهما نتعب ونعمل ونشقى...
هنالك عند أقصى الحياة... هادم اللذات... ألا إنه لا بد الممات... عنده تتوقف الدقائق والساعات... وعندها يا ترى من يحسن منا ومن يسيء الخاتمات؟؟!!...
تذكرت أن الموت يلاحقنا ونحن الهاربون منه الفارون بكل سبل وحيل الدنيا، ولكن إلى أين المفر؟!... فلا منجى ولا ملجأ ولا ملتجأ لنا من الله إلا إليه... مهما تعبنا وارتحنا، وعانينا وفرحنا، وتكبرنا وفقرنا، ولعبنا ولهونا، وتعالينا وتصاغرنا... فلا مناص من مذاق طعم الموت...
أجل هناك ذقت طعم الموت، وما أصعب الموت وطعمه، وما أصعب أن ترى نفسك تسقط تموت لا يعني بك أحد ولا يراك ولا يسمعك... إنه فعلا لشعور قاتل...
رباه ما أصعبه من شعور أن تحس أن روحك تفيض بقمة البطء، وتبقى الروح لتعذب أنفاسك الأخيرة عالقة في حلقك فقط للعذاب... ما آلمه ذاك العذاب...
فتصبح عالقا لا في الحياة ولا في الممات، فتتمنى إما أن تموت فتظن الراحة، وإما أن تحيا فتظن العذاب...
وشيئا فشيئا إلى جانب الألم الذي أقاسيه أحس أن الروح بدأت تخرج. إلى أن وصلت إلى أعلى مكان لها... لكن قبل خروجها استوقفتها واستأذنتها فأرجعتها قليلا... لا حبا للحياة... ولا خوفا وهروبا من الممات...
إنما أرجعتها لحنيني وحب تذكاري لصورة ورائحة أمي، قبل أن أودع هذا الكون، فهي مصدر الحنان والأمان والاطمئنان... أمي...!!! فقط بعد ذلك سمحت للروح أن تخرج، ففاضت بقمة السرعة ولم تعد أبدا... روحي...!!!
ومن ثم اكتشفت بعد ذلك كله أن رغم جميع العذاب ذاك إلا أن عذاب ما بعد الموت وخروج الروح هو أصعب وأمرّ، إنه عذاب الفراق... فراق الأحبة وكل من عهدت على وجه هذه الأرض... ويلتاه يا له من عذاب...
وجدت هناك روحي طائرة تحلق فوق رفاتي، فوق جثتي الهامدة...
مؤلم ذلك الشعور أن ترى وتشعر بالناس ولكن لا يشعر بك أحد... ودّعني الجميع وحملوني إلى مثواي الأخير... ودفنوني وأسقطوا علي التراب...
وإذ بمراقب التذاكر يوقظني من إغفاءتي تلك وقد يكاد ينفجر من الضحك من الحركات التي كنت أقوم بها عند مماتي الخيالي في منامي القصير هناك في المقطورة... ولكنه تماسك نفسه وطلب مني التذكرة لكي يقوم بخرقها ويكمل... فناولته إياها وكلي كالميت الذي أفاق فجأة...!!! متخبط متأبط لا أعلم ماذا حدث ولماذا...!!!
وهكذا أفقت وأخذت أرقب المقطورة زاوية زاوية، وكأنها صفحة جريدة أبحث فيها بين السطور عن كلمات وعناوين تشفي الفؤاد والغليل... وبينما أنا كذلك وإذ بعيني تلمح هناك في طرف المقطورة الآخر فتاة تكاد تكون في العشرينات من عمرها، وكانت تملك من الجمال ما لم تملكه ملكات العرب... ويا لشفاهها كم كانت تقطر من ألوان الشهد والعسل... وعيناها من أنواع البريق والغزل... وقوامها من أشكال الحور العين والشعر الجدل... وما لم يختلف عليه اثنان أنها تملك من الجمال جمال الشرق والغرب... وكأن الحضارتين اجتمعتا للمرة الأولى في مكان واحد وهو شخصها...
لم أنو الاقتراب منها ولا الحديث معها إلا أن نظراتها الثاقبة الفاتنة أرغمتني على القيام من مكاني والتوجه إليها في حجة أن أسألها ما الساعة... مع أن بريق ساعتي التي تعلقت على يدي اليسرى كان واضحا لكل عين... كم كنت في حيرة وخجل من أمري... ولكنها أبدت إعجابها بالخطوة الذكية والجريئة التي أقوم فيها... وأجابتني بأنها تفضل الصراحة على كل الطرق الملتوية تلك...
تمالكت نفسي وجاءتني الشجاعة من حيث لم أحتسب فجلست بجانبها وكلي يقول:- هذا ما أريد، أريد أن أكون معك وبجانبك، فمعك سأشعر بالدفء ومعك سأحيا بعد الممات ومعك سأذوق طعم الحياة الحلو، ومعك ومعك ومعك...
تحدثنا طويلا حتى اعتَرَفَت بأنها وقعت في غرامي وأنا بدوري اعترفت لها كذلك بما حوى القلب تجاهها... وهكذا مرت الدقائق والساعات ونحن كذلك الواحد ناظر في عيني الآخر لا نريد أن تفترق تلك العيون... مرت بنا المقطورة بمناطق عدة: بسهول وجبال... بغابات وتلال... بأنوار وظلال... ونحن بلا جدال... محب ومحبوبة وهلال...
كان ذلك أسرع حب عرفته البشرية... ولكن سرعان ما تغير ذلك الشعور وتبدل من حب وسعادة إلى كره وتعاسة... فقد اعترفت لي تلك الفتاة أنها ما صعدت إلى ذلك القطار إلا لأنها تعلم علم اليقين كما قيل لها أن القطار بعد بضع ساعات من سفره سيهلك بمسافريه... ولذلك سمي قطار الموت... لأن جميع مسافريه هم من محبي ومريدي الانتحار... هم ممن ضاقت عليهم الدنيا، وجار عليهم الزمان، وظلمهم الإنسان، وتبرأ منهم المكان... لم أكن كذلك من أمثالهم إلا أن حظي وقدري وضعني بينهم وعلى ما يبدو ستكون نهايتي في حضن محبوبتي... وأشلائي ستتلاقى مع أشلائها لتكون جسدا واحدا دمه الحب... وهكذا بدأ القطار بالاشتعال فأخذت هي تبكي وأنا صابر صامد على ما سألقى من سوء حتفي... وها هي النار تصل مقطورتنا، وتهب وتشتعل بجسدينا معا ولا أذكر بعدها إلا أصوات العويل والصراخ والبكاء التي ملأت المكان...
وإذ بطرقة عنيفة تنبع من باب غرفتي جراء تحريك الهواء له وقد أدى ذلك لأن أصحو من ذلك الكابوس المميت الذي هلَكتُ عبره مرتين... كم كان مضحك منظري وأنا مرمي متكوّم جانب السرير وحولي وجدت الوسادة البيضاء... وغطائي كان يلفني كالكفن... يبدو أنني عشت الحلم كما يجب!!!
وها هو كوب الشاي الذي اعتدت عليه صباحا يدنو مني... معدّ على يد أطهر يد على وجه الأرض... يد أمي...
أفقت وكلي مذعور وباسم الشفاه معا... أكل ذلك ما كان إلا حلم ووهم، وقد ضاعا عند فتح بوابة رموشي؟!... وكأنه فتح بلاد الأحلام... فاحتلالها وفتحها ومسح ماضيها يكون إما بالاستفاقة للحقيقة، أو أن نستفيق مذعورين لمفاجأة تمحو الماضي وصفحاته...
استيقظت والشمس ساطعة والهواء في الخارج مليء النسيم العليل ويداعب أطراف ستائر غرفتي، فما كان مني إلا أن نهضت سريعا، وخلال ثوان قليلة غسلت وجهي الذي بدا شاحبا بعض الشيء ويميل إلى الصفرة لما رأى وعانى وذاق من مرارة الأيام والمنامات... إنه الوجه الذي ضحك كثيرا وهو مليء الألم... والذي ابتسم كثيرا وهو مليء الدمع والحَزَن...
رغم صفرته وشحوبه إلا أن الماء أراحه بعض الشيء...
وعندها تذكرت أني كنت قد وعدتها أن ألقاها في المقهى القريب... فسارعت وبدلت ثيابي وقفزت إلى داخل سيارتي... وأنا مسافر إليها بدا كل شيء سريع... وكأن الدنيا كلها متلهفة لذاك اللقاء... كنت مسرعا... والسيارة مسرعة... وكلي متسرع... حتى وصلت المقهى وكانت قد انتظرتني طويلا... حييتها وجلست هناك... أمامها: أمام أعينها وشفاهها ونظراتها ونواياها...
تناولنا طعامنا بشهية لا توصف وكأننا نأكل للمرة الأولى والأخيرة...
كانت وجبة من خيال... لذيذة شهية لكن سرعان ما انقشعت فذهبت وولّت غير راجعة... أطلنا الحديث هناك وأخذَنا الوقت... كنا فرحين الواحد بالأخرى... وإذ برصاصة عاتية ملتهبة تخرق جسد الفتاة وتستقر في قلبها قاتلة قلبها وعقلها... ماتت الفتاة...
استجمعت قواي ووجدت قاتلها... فأسرعت لمصارعته... لكنه كان يملك سلاحا لم أملكه... فأرسل إلى قلبي رصاصة أخرى أودت بحياتي فأردتني قتيلا جاهلا ومجهولا...
ما أصعب أن تُقتل ولا تعلم من قاتلك الحقيقي... ما أصعب أن تُردى قتيلا قبل أن تنتقم وتشفي غليلك... صعب هو القتل المجهول... من قتلك؟ لماذا وعلى ماذا قُتلت؟!!...
وإذ بالنادل يستسمحني ويقول بصوت عال أفاقني: يا سيدي إن المقهى قد أُغلق منذ بضع ساعات، وأنت الوحيد الذي بقيت... فإذا سمحت أريد أن أغلق المقهى وأذهب لأرتاح في البيت...
أفقت من ذلك الحلم وخرجت من المقهى لأجد نفسي أتمشى على أرصفة الشوارع... أرصفة شوارع العمر... ملونة هي نصفها أبيض والنصف الآخر مليء بالسواد...
عندها فقط أيقنت أنه لا بد أن أبقى مستيقظا... بلا منام ولا أحلام... يجب أن أكون كالسمكة... لا تعرف النوم... تعطي جمالها للقوم... إن ماتت فقط يلقى عليها اللوم... وإن عاشت لا يضاهيها أحد في العوم... سأبقى يقظا كل اليوم كل اليوم كل اليوم...
أيها المرء إن كنت تحلم فالحلم لن يدوم... وإن كنت يقظا فحذار أن تحلم بأمر لا يدوم...كن كما تريد أنت أن تكون... لا كما هم يريدون أن تكون... كن أنت أنت... ولا هُم أنت... كما كنت... كن أنت...

مقالات متعلقة