مطانس فرح في مقاله:
لا أجد أيّ سبب يمنعني من الوقوف دقيقة حداد على أرواح شهداء مجزرة النازية التي ارتكبت بحقّ الإنسانيّة، وراح ضحيّتها الملايين
إذا كانت هذه الدموع التي ستفرّ من عيونهم، أو هذا الحزن الذي سيلّفهم من أخمص القدم إلى أعلى الرأس، حدادًا على جنود إسرائيل، سيزيد من وفائهم وإخلاصهم للدولة
التعاطف مع ملايين ضحايا المحرقة النازيّة والوقوف دقيقة حداد لدى سماعنا الصافرة، إنسانيّ بينما التعاطف مع شهداء معارك إسرائيل (الجنود)، والوقوف دقيقة حداد لدى سماعنا الصافرة، هو..
حاولت - كعادتي في كلّ عام - أن «أهرب» قبل سماعي الصافرة بلحظات.. نعم، هذا هو حالي الذي يتكرّر سنويًّا، في يوم ذكرى شهداء معارك إسرائيل؛ أختلق سببًا كي أختفي دقائق معدودة، وأختبئ في مكان ما، بعيدًا عن أعين بعض الزملاء اليهود، وكَيْلا ترى عينايَ، أيضًا، بعض «العرب» الذين يقفون - في الأحياء العربيّة الحيفاويّة، كذلك - حدادًا على أرواح الجنود الإسرائيليّين، هؤلاء الجنود الذين احتلّوا أراضينا، وشرّدوا أهالينا، وقتلوا شيوخنا ونساءَنا وأطفالنا، وهم - عربنا الحَزانى والمتعاطفون - على وشك أن يذرفوا الدموع أو يُوَلْوِلُوا وهم مُطأطَأو الرأس (بمعنًى مضاعف)!!
دموع مستفزة
لا أدري ما إذا كانت هذه الدموع التي ستفرّ من عيونهم، أو هذا الحزن الذي سيلّفهم من أخمص القدم إلى أعلى الرأس، حدادًا على جنود إسرائيل، سيزيد من وفائهم وإخلاصهم للدولة، التي توسّع الفجوة بينها وبين العرب، طالما أنّ الأمور جارية وطالما أنّ «العرب» المخلصين متواطئون معها!
يستحيل أن أخال نفسي واقفًا - ولو ثانية، وليس دقيقة - حدادًا على جنود معارك إسرائيل؛ فالقضيّة هنا ليست إنسانيّة؛ إذ سأتعاطف مع قاتلي أبناء شعبي، علمًا أنّني أحاول ألّا أتظاهر بشكل استفزازيّ أو فظّ لدى وجودي بين زملاء يهود، فأتهرّب - كما ذكرت آنفًا - إلى أن تهدأ الصافرة. عدم وجودي لحظة سماع الصافرة - بشكل فجائيّ! - وسْط زملائي اليهود، قد يعطي جوابًا لغالبيّتهم، بشكل غير مباشر، عن موقفي من صافرة ذكرى شهداء معارك إسرائيل، من دون الخوض في نقاشات، وفي هذا اليوم خصوصًا؛ لأنّنا سنكون - أنا وهم - واقفَيْن على قطبَي نقيض! فأترك النقاش، غالبًا، لأوقات أنسب، أقلّ توتّرًا وحدّة.
الكارثة والبطولة
إلّا أنّ لـ«شقيقة» هذه الصافرة، صافرة ذكرى «الكارثة والبطولة»، والتي سبقتها بأسبوع واحد، قصّة مختلفة؛ حيث تذكّرنا بضحايا النازيّة، من جرّاء عمليّة الإبادة الكبرى والبشعة التي اقتُرفت بحقّ البشريّة جمعاء - وليس اليهود، فقط - بفعل سياسة نازيّة قامت على أساس عنصريّ، عرقيّ، دينيّ، واستعلائيّ.. باقتراف كُبرى الجرائم بحقّ الإنسانيّة، لهدف الإبادة والتطهير!
ضحايا النازيّة
لا يُعرف عدد ضحايا النازيّة، بالضبط، ولكن يُشار إلى أنّ العدد قد يصل إلى 20 أو حتّى 25 مليون ضحيّة، بينهم: 6 ملايين يهوديّ، وملايين أخرى من الشعوب والديانات والمجموعات العرقيّة الأخرى، أبرزهم، ما يقارب الـ: 3 ملايين پولنديّ، 3 ملايين روسيّ، مليون غجريّ، عدا مئات الألوف من العرب، والمقعدين والعاجزين والضعفاء والمرضى والمثليّين، وغيرهم.
صافرة شهداء المحرقة
وبما أنّ صافرة شهداء المحرقة النازيّة تختلف مضمونًا، وتأتينا من منطلق إنسانيّ، ولأنّنا إنسانيّون، فعلينا أن نقف مع أخينا الإنسان.. فالحَيرة التي كانت تلفّني في سنوات سابقة حول وقوفي دقيقة حداد لدى سماعي صافرة ذكرى المحرقة النازيّة - «الكارثة والبطولة» - تبدّدت، ولا أجد أيّ سبب يمنعني من الوقوف دقيقة حداد على أرواح شهداء مجزرة ارتكبت بحقّ الإنسانيّة، راح ضحيّتها الملايين.
أنا واثق بأنّ الكثيرين في حَيرة من أمرهم، ولا يعرفون كيف يتصرّفون لدى سماعهم الصافرتين، خصوصًا إن كانوا يسكنون المدن المختلِطة، ويعملون ويعيشون وسْط «أبناء العمّ».. فهل عليهم أن يقفوا حدادًا على شهداء معارك إسرائيل وضحايا المحرقة، أيضًا، خَشية أن «يخدشوا» مشاعر الزملاء اليهود، وكي لا يُتّهموا - إضافة إلى عشرات التهم المسبّقة - باللاإنسانيّة؟! هل يكفي أن يقفوا حدادًا على ضحايا المحرقة النازيّة، فقط؟! هل عليهم أن «يهربوا» للاختباء والاختفاء عن الأعين، كلّما اقترب موعد الصافرة - كما تفعل الغالبيّة؟! فما العمل؟!
الفرق ما بين الصافرتين
لا شكّ في أنّ الفرق شاسع ما بين الصافرتين «الشقيقتين».. لأنّ التعاطف مع ملايين ضحايا المحرقة النازيّة والوقوف دقيقة حداد لدى سماعنا الصافرة، هو إنسانيّ.. بينما التعاطف مع شهداء معارك إسرائيل (الجنود)، والوقوف دقيقة حداد لدى سماعنا الصافرة، هو...!
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر.
لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وصورة شخصية بحجم كبير وجودة عالية وعنوان الموضوع على العنوان: alarab@alarab.co.il