يقف الطفل محمد ذو التسعة أعوام خلال الاستراحة في فناء المدرسة وحيدا وبعيدا عن أقرانه من التلاميذ الذين بدأ بعضهم بشراء الحاجيات ليأكلوها أو يشربوها قبل انتهاء فترة الاستراحة.
الطفل محمد لم يشتري مثلهم ولم يأكل أو يشرب وانتهت الاستراحة دون أن يفعل مثل زملائه وظل صائما طوال اليوم الدراسي إلى أن عاد إلى بيته، وهناك تناول طعام الغذاء البسيط .
لم ينتهي بطبيعة الحال مشهد الطفل محمد عند هذه اللحظة بل أن صراخ أبيه مع أمه حول الأموال ومصروفات البيت والحياة الاقتصادية السيئة كانت تحت نظرة وسمعه فالطفل متأثر جدا بهذا الوضع الاقتصادي السيئ في المدرسة وفي البيت أيضا حتى انه فكر يوما من الأيام بترك المدرسة والذهاب للعمل حتى يساعد أبيه في التغلب على الظروف الاقتصادية التي يعيشها هو وأسرته.
إذن الموقف هنا أمام واقع جديد وتطور ثقيل على هذا الطفل محمد بحيث أنه متأثر نفسيا وجسمانيا وعقليا بالحياة الاجتماعية والأسرية التي يعيشها ضمن نطاق أسرته، وتفكيره في كل الأحوال يساوي تفكير شخص كبير يبحث عن حلول للمشكلة وليس تفكير طفل صغير يجب أن يركز في واقعه التعليمي حتى يحقق النجاح ويرسم لنفسه المستقبل الواعد ,ومن هذا المنطلق فان الوضع الاقتصادي السيئ الذي يحياه الطفل محمد والناتج عن الحصار الإسرائيلي حتما سيقضى على مستقبله العلمي إلا إذا تم تدارك هذا الواقع
قصة الطفل محمد أبو جهاد من مخيم النصيرات وسط غزة هي واحدة من الكثير من القصص والتي يتأثر من خلالها الطفل الفلسطيني سلبا بسبب الحصار المفروض على قطاع غزة حيث يتأثر من الناحية الاقتصادية والتربوية والصحية والنفسية
تراجع المستوى التعليمي
يقول المواطن الفلسطيني ماجد عمر إن أطفاله الذين يدرسون في المدارس الابتدائية والإعدادية تراجع مستواهم العلمي خلال الفترة الماضية وذلك بسبب عدم قدرته على توفير الحاجيات الملائمة لهم وتشجيعهم من الناحية الترفيهية والمادية حتى يواصلوا مسيرتهم التعليمية بنجاح مشيرا إلى انه عاطل عن العمل ووضعه الاقتصادي بالغ الصعوبة بحيث انه لا يعطي أولادة مصرفات أثناء ذهابهم إلى المدرسة إلا في أوقات نادرة.
من ناحيته يقول المواطن كايد محمود من مخيم جباليا وهو أب لخمسة أطفال انه يعجز عن شراء كتب لأطفاله بسبب الوضع الاقتصادي السيئ كما أن احد أطفاله يحتاج إلى نظارة طبية ولا يستطيع توفيرها له.
وفي هذا الصدد يقول د.خليل حماد مدير وحدة المناهج في وزارة التربية والتعليم العالي إن الحصار الاسرائيلى على قطاع غزة له تأثيرات كارثية وصعبة على الطفل الفلسطيني بشكل عام وتلميذ المدرسة على وجه الخصوص مشيرا إلى قصة تدني المستوى التحصيلي لدى الطلبة في مراحل التعليم المختلفة، "حيث الفقر والإغلاق واستهداف الأطفال، ساهم في عزوف الكثير منهم عن الدراسة"، مؤكداً ارتفاع النسب المئوية هذا العام فيما يتعلق بعمالة الأطفال والتسرب من المدارس "لأسباب اقتصادية أولاً وأخيراً".
أطفال مدرسة في غزة
كما يؤكد الدكتور حماد إلى أن المعلم الذي هو عنصر آخر من عناصر العملية قد تضرر من حالات الإغلاق المتكررة للمعابر، "فلا هو قادر على استكمال مقتضيات الدرجات العلمية العليا، ولا هو قادر على تأدية الرسالة بالصورة الصحيحة في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية"، مشيرا في هذا الصدد لتوقف صرف المكافآت العلمية للمعلمين نظراً لنقص الموارد و توقفت المشاريع الرائدة لتأهيل المعلمين وتدريبهم.
للطفل حقوق..؟!
لقد أثر الحصار تأثيراً كبيراً على العملية التعليمية برمتها، وكانت أكثر الفئات تضرراً هي الأطفال الفلسطينيين في قطاع غزة وهذا بطبيعة الحال انتهاك صارخ للقوانين والأعراف التي تصون حقوق الطفل فقد نصت المادة (28) من اتفاقية حقوق الطفل على حق الطفل في التعليم واتخاذ التدابير لتشجيع الحضور المنتظم في المدارس والتقليل من معدلات ترك الدراسة، بينما نصت المادة (29) على "أن يكون التعليم موجهاً نحو تنمية شخصية الطفل ومواهبه وقدراته العقلية، والبدنية إلى أقصى إمكاناتها" وبطبيعة الحال فان هذه المواد غائبة في غزة بسبب الحصار.
من جانبها تقول د.نجوى صالح رئيس وحدة المناهج والمقررات في كلية المجتمع للعلوم المهنية والتطبيقية بغزة، إن نتائج الحصار على صعيد العملية التربوية والتعليمية،يؤدي إلى حرمان طلبة المدارس والجامعات من حقهم في التعليم، وعرقلة سير العملية التعليمية وذلك باستهداف طلبة المدارس والمدرسين عبر عمليات القصف المباغتة، والتي ينتج عنها إما الاستشهاد أو الإصابة"، منوّهةً إلى قضية تعطيل الدراسة بدعاوي الإضراب والاحتجاج،التي يقوم بها المدرسين بسبب عدم حصولهم على الرواتب وما ينجم عن هذه الظاهرة أيضا من توقيفٍ لسير المدرس في المنهاج والحصص الدراسية.
كما توضح الدكتورة نجوى إلى أن هناك عدة مظاهر ونتائج سلبية انعكست على الطفل الفلسطيني بسبب الحصار ومن بينها زيادة نسبية في معدلات الغياب عن المدرسة، وانخفاض معدلات النجاح والنسب التحصيلية، وارتفاع في نسبة ضعف الاستيعاب والفهم وقلة التركيز والانتباه"، لافتةً إلى تدهور الحالة الصحية للكثير من الطلبة وإصابتهم بالأمراض المزمنة وضعف إمكانية علاجها مع قلة الإمكانيات كما نوهت الدكتورة نجوى إلى مشكلة انقطاع الكهرباء عن قطاع غزة حيث إن لهذه المشكلة دور كبير في إرهاق التلميذ نفسياً وصحياً أثناء المذاكرة".
الضغط.. يولد الانفجار!
من ناحيته يقول د.فضل أبو هين أستاذ الصحة النفسية المشارك بجامعة الأقصى، ومدير مركز التدريب المجتمعي وإدارة الأزمات بغزة، ان سياسة العزل والإغلاق ترتبط بأجواء العنف والتوتر والمواجهة، وهي سياسةٌ مارسها الاحتلال الإسرائيلي منذ زمن بعيد ضد الشعب الفلسطيني لأهدافٍ معلنة وأخرى خفية، وعلى رأس هذه الأهداف خلق حالةٍ من الفوضى وأنماطٍ مجتمعية تعاني الانقسام ويعلو لدى أفرادها مستوى الأنا.
ويضيف أبو الهين على الأهداف السابقة هدفاً أخطر هو استنزاف طاقات الإنسان الفلسطيني وإهدارها، قائلاً:"لدى كل إنسان مجموعةٌ من الطاقات، وهذه الطاقات تحتاج إلى متسعٍ من المكان لتنفيسها واستثمارها، وإن لم يتح لأصحابها هذا المتسع فحينها -ولا بد- ستتفشى ظواهر العنف الاجتماعي بين الإخوة والإخوة، والآباء والأبناء، والأزواج والزوجات".
وفي الإطار ذاته تابع:"ضيق الأفق المكاني يولد ضيقاً نفسياً أعمق وأقوى جذوراً، واستعداداً للانفجار في أي لحظة، وبالتالي فإن الإغلاق الجغرافي يولد الانغلاق في دائرة العلاقات الاجتماعية بين الذات والذوات الأخرى، وانغلاق دائرة السلوك الطبيعي للإنسان في إطاره السوي فيصبح السلوك رهناً بظروف الإغلاق".، مستعرضاً بعض الآثار المترتبة على العزل بالقول:"تتأكد لدى الإنسان حالة من الكسل والإحباط واللامبالاة أحياناً، بينما ترسخ في عقله فكرة عدم القدرة على التنقل أو الإنتاج أو ممارسة الحياة الاجتماعية الطبيعية".
الحياة في قبضة.. الأقوى!
وتابع د.أبو هين:"آثار سياسة الحصار يمكن ترجمتها في تزايد انتشار المشاكل النفسية والسلوكية لدى الأطفال والناتجة عن اتجاهات الكبار من الصغار"، وضرب مثلاً على ذلك بقوله:"إذا شعر رب الأسرة بالعجز أمام السلطة التي تفرض عليه الإغلاق وتمنعه من العمل والإنتاج، فإنه يريد أن يبدل بطريقة لا شعورية عجزه إلى قوة وفاعلية أمام أناس أضعف منه، وبهذا الأسلوب يكرر نفس طريقة المعتدي فيكبح سلوك أطفاله ويعاقبهم على أي شيء، بينما يمنعهم من انتهاج السلوكيات الطبيعية في حياتهم، وحينئذ تكون الوسيلة التي تساعده على تحمل الإحباط هي إفراغ آثار التوتر بشكل عنيف في علاقته مع الآخرين فيزداد عقابه لأطفاله، ويزداد توتره وقسوته مع زوجته".وبذلك يؤثر على تحصيلهم العملي
وأضاف :"طالما فقد الطفل مظاهر طفولته وسط الواقع المحيط، فإنه يلجأ إلى أساليب مختلفة يتكيف من خلالها مع واقعه، كالهدوء المبالغ فيه والقلق والخوف الداخلي والعزلة، إضافةً إلى نكوص بعض الأطفال ورجوعهم ليحيوا مرحلةً عمرية لا تخصهم بل تخص من هم أصغر منهم سناً"
القطاع الصحي.. المتهالك!
من جهته يقول د.سمير أبو دراز من وزارة الصحة ان هناك الكثير من المشاكل التي أصابت القطاع الصحي نتيجة إغلاق المعابر، وكانت الوطأة الكبرى في ذلك على الأطفال"، وعن الآثار على صعيد المواطن الفلسطيني استطرد:"أهالي القطاع الآن لا يملكون أدنى تكاليف العلاج، وهذا يساهم في تأخير موعد مراجعتهم للطبيب المختص مما يؤدي إلى استفحال المرض في أجسادهم وأجساد أطفالهم"، مؤكداً أن شراء الوالدين لمستلزمات أطفالهم "ولا أقصد هنا مستلزمات الرفاهية" باتت ضرباً من ضروب الخيال "حليب الأطفال بدأ ينفذ من الأسواق، وإن وجد فقد ارتفع ثمنه إلى ما يقارب الضعف".
وأوضح د.أبو دراز أن الأوضاع الاقتصادية تسببت في ظهور مشاكل سوء التغذية من جديد على الساحة الفلسطينية بعد أن كانت نادرة الوجود خلال الأعوام السابقة، وقال:"هي كثيرة في الأطفال الرضع، فنقص التغذية يسبب نقص المناعة، ونقص المناعة يؤدي إلى التهابات قد تستفحل لتصبح مزمنة"، موضحاً أن علاج الأطفال في المستشفى لا يجدي نفعاً في كثير من الحالات "فالطفل يتلقى تغذيةً وعلاجاً لدينا، وعندما يرجع إلى بيته يعود فيتلقى غذاءً غير صحي، وكأن ما فعلناه ذهب هباءً منثوراً".
وهكذا فان الحصار الاسرائيلي على غزة يؤدي الى نتائج كارثية على الطفل الفلسطيني الامر الذي يتطلب رفع هذا الحصار .