سارا في باحة الجامعة الأمريكية في جنين، يتحدثان عن مشاريعهما المستقبلية بعد تخرجهما كطبيبين للأسنان، عندما أوقف أدهم زميله وليد قائلا:
- اسمع يا وليد.. بعد أسبوع، سننهي تعليمنا. أريد أن أستضيفك في حيفا.
- وعدت نفسي فور انتهاء الدراسة مباشرة، البحث عن حبيبتي. أستطيع أن أحميها بعد أن أصبحت طبيب أسنان.
- ومن هي حبيبتك هذه، وأين ستبحث عنها؟
- إنها من مدينتي، نابلس..
- أنا لا أصدق بأن لك حبيبة، فأنت طوال سنوات تعليمنا لم تكلم فتاة واحدة، ولا أظنك تعرف كيف تتعامل مع الفتيات.. اسمع، عندي اقتراح..
- ما هو يا أدهم؟
- ستأتي إلي، إلى حيفا في العطلة الصيفية. سأعرفك على بعض الجميلات وأعلمك كيف تتعامل معهن، وهكذا تصبح لديك خبرة، لتتعامل مع حبيبتك.
- أنا لا أحمل تصريحا بالدخول إلى إسرائيل..
- لديك قريب في الداخل يستطيع أن يوجه لك دعوة للزيارة فقط؟
- ليس لي أحد هناك.
- لحظة.. ألم تخبرني من قبل أن والدك كان يرسل لك النقود للتعليم من الناصرة ؟!
- إنه ليس أبي الفعلي.
- كيف؟!
- هذا سر أحتفظ به لنفسي.
- سنوات وأنا أروي لك أعمق أسراري.. بينما تحتفظ بإسرارك لنفسك.. لن تكون صديقي بعد اليوم.
أسرع وليد نحو أدهم، شده إليه بقوة، وقال لا يا أدهم، لا تتركني.. فأنت عائلتي وصديقي الوحيد، فأنا لا أعرف أي أب أو أم أو أخ أو أخت.. سأروي لك كل شيء..
- لا تحزن يا وليد، فأنا لن أتركك لأي سبب.. وبإمكانك أن لا تروي لي شيئا، فأنا أيضا أحبك، وأنت أفضل صديق.. هيا إلى غرفتنا.. علينا أن نبدأ بتحضير أغراضنا ونستعد لمغادرة الجامعة، ولن نعود إليها مرّة أخرى..
تأبط الاثنان كتفي بعضهما وتوجها إلى الغرفة، قال أدهم: ابدأ بجمع أغراضك وأنا سأعد لك الطعام.
وانهمك كل منهما بتنفيذ مهمته.. ثم دخل وليد إلى المطبخ وهو يحمل بيده صورة، وسأل أدهم:
- هل تعرف هذا الرجل؟
- لا.. من هذا؟!
- إنه والدي الذي حدثتك عنه..
- ومن أين لي أن أعرفه؟!
- إنه صاحب محل تجاري كبير في الناصرة.. تمعن جيدا في الصورة..
مسح أدهم يديه بالفوطة التي كانت على كتفه، تناول الصورة من يد وليد وما أن نظر إليها، حتى صرخ: بالطبع أعرفه.. هذا هو والدك يا ابن ... وتقول لي بأنك لا تستطيع الدخول إلى إسرائيل؟.. هذا الرجل يدخلك ويدخل جد جدك.. ويستطيع أن يبني لك بيتا ويسكنك فيه أيضا..
- خمنت
- ذلك، لكني لا أريد أن أعتمد عليه أكثر، فيكفي ما قدم لي حتى الآن، أصبحت طبيبا بفضله..
- ولماذا كان يمدك بالمال؟
- كنت في التاسعة من عمري عندما التقيت به في الناصرة.. وقفت على حافة الشارع بجانب الإشارة الضوئية، ولما أضيئت الإشارة الخضراء للسيارات حتى انطلق بسيارته، فمر إطار السيارة فوق قدمي الصغيرة، أخذت أصرخ من الألم وسقطت على الأرض.. أركن سيارته جانبا وترجل منها وجاء ليفحص ماذا جرى لي.. هدأ من روعي وقال لي: سأحملك إلى الطبيب.. فقلت له لا أستطيع مغادرة المكان لأن المقاول سيأتي ويأخذني بعد ساعة..
دهش أدهم وقال: ماذا كنت تفعل في الناصرة وأي مقاول هذا الذي كنت تنتظره؟!
- إنه المقاول الذي يجمع الأطفال من الأحياء الفقيرة في فلسطين المحتلة ويقوم بتوزيعهم على مداخل المدن العربية في إسرائيل للتسول..
- هل كنت متسولا في الناصرة؟؟!!
- أجل.. كنت أتسول، وكانت سعاد ترافقني..
- ومن سعاد هذه؟
- إنها بنت من حارتنا.. كنا نتسول معا في العطل المدرسية. ثم انتقلنا للتسول أيام الجمعة والسبت. وكنا نقف ونطلب أي مبلغ من سائقي السيارات التي تقف بجوار الإشارة الضوئية، كنا نعبث أحيانا بالإشارات لكي يدوم الضوء الأحمر مدة أطول، فنلح بطلبنا من السائق، وبالتالي يرضخ ويعطينا ما بجيبه. لفحتنا أشعة الشمس مدة طويلة في نفس الشارع في الحي النصراوي.. جمعتنا الإشارة الضوئية الخضراء وفرقتنا الحمراء. كنت انتظر الضوء الأحمر بفارغ الصبر حتى نعود للرصيف ونواصل ما بدأناه من حيث لا ينتهي.. حتى الآن، لا أحب الضوء الأحمر لأنه كان يبعدني عنها بضع دقائق. كنت أحسها ساعات طوالا.
- وماذا حصل بينك وبين السائق؟
- عندما رأى ماذا حصل.. حملني إلى الطبيب ووعدني بأنه سيعيدني قبل عودة المقاول. وتعرف علي وعلى عنواني في نابلس..
- لا أصدق أنك كنت تتسول في طفولتك.. كيف سمحوا لكم بالدخول إلى إسرائيل!
- كان المقاول أحد العملاء الفلسطينيين المتعاونين مع إسرائيل، ولقاء "خدماته" بخيانة أبناء شعبه، سُمح له بتعبئة سيارته بالأطفال والنساء الفلسطينيين لكي يعملوا بإمرته في التسول لدى إخوانهم الفلسطينيين داخل إسرائيل.. دفع المتعاون مبلغا زهيدا لذوي المتسولين مقابل عملهم طوال اليوم تحت أشعة الشمس الحارقة، وتعرضهم للإهانات من عابري السبيل.
- أيعقل هذا!
- لمحاربة الفقر الذي تسببه الاحتلال، فعلت بعض العائلات أسوأ من ذلك، حيث قامت بتأجير أطفالها الرضع فتحملهم النساء المحجبات، ويقفن بهم على مفترقات الطرق الرئيسة والشمس تحرق رؤوسهم الصغيرة والغضة التي لم تكتسب سوى الزغب الناعم.
- وكيف عاملكم النصراويون؟
- كان الشعور بالاستياء العام، توجه بعضهم إلى البلدية أو الشرطة أو الجمعيات التي تعنى بحقوق الأطفال لمنع استغلالنا، لكن توجهاتهم لم تقع في آذان صاغية، لأن يد العميل كانت أطول من الجميع..
- هل أفهم أن السائق الذي دهسك في ذلك الوقت هو نفسه الذي أمدك بالمال؟
- صحيح، هو بعينه.. لقد توجه إلى والدي وأعطاه مبالغ باهظة لكي لا أتسول بل أكمل دراستي. استمر يمدني بالمال حتى بعد وفاة والدي، فتعهد بالوقوف إلى جانبي حتى أصبح طبيبا، وها أنا أصبحت كذلك.
- ولماذا فعل معك كل ذلك؟!
- علمت منه بأن كان له ابنا في سني وقد صدمته سيارة وقتلته، لذلك لا أريد أن أثقل عليه أكثر ولن أطلب منه شيئا بعد..
- حسنا لن تطلب منه النقود.. لكنك ستحل ضيفا علي في حيفا.. دعه يساعدك فقط بالدخول إلى إسرائيل.
- سأنظر في الأمر..
في الغد، تلقى وليد مكالمة من رجل الأعمال النصراوي، وأعلمه فيها أنه سيدبر له تصريحا للدخول إلى إسرائيل وبأنه يريد الاحتفال بتخرجه كطبيب.
فرح وليد لهذه المصادفة واتصل بأدهم ليعلمه الخبر.. تلقى أدهم هذه المكالمة بفرحة مصطنعة، لم يلاحظها وليد، ولم ينتبه لما يكمن وراءها.. فقد كان هو وراء المكالمة وقد اتصل برجل الأعمال وطلب منه أن يفعل ذلك.
سافر الزميلان معا إلى الناصرة ليلتقيا برجل الأعمال، وبعد الاحتفال الكبير الذي أقامه للزميلين في بيته، استأذن وليد رجل الأعمال بالسفر مع زميله إلى حيفا، ليحل ضيفا عليه كما وعده.. لكن رجل الأعمال اشترط ذهابه بقبول مظروف يحتوي على مبلغ كبير من المال، ليساعده في فتح عيادته الجديدة، وألا يرجع إلى نابلس قبل أن يودعه.
استقل الزميلان سيارة الأجرة إلى حيفا، وعندما اقتربت السيارة من مخرج المدينة طلب وليد من السائق أن يتوقف عند إشارة المرور لينزل قليلا.. فنزل معه أدهم.. وقفا على الرصيف وقال وليد: هنا دهستني السيارة. وعلى حافة هذا الرصيف جلست مع سعاد آخر مرة، عندما صارحتها بحبي وعاهدتها بأني سأحميها حتى آخر رمق في حياتي.
أجابه أدهم: أخشى أنك بعد أن تتعرف على بنات حيفا ستنسى حبيبتك سعاد..
ابتسم وليد وبقي صامتا..
لم يدع أدهم فتاة يعرفها في حيفا، إلا وعرفها بوليد.. وكان وليد لطيفا معهن جميعا، لكن لم تجذبه أي منهن.. وبعد يومين، قال أدهم لصديقه: سأعرفك اليوم على بنات من نوع آخر، لم تعرف مثلهن من قبل.. لم يفهم وليد مغزى هذا الحديث، لكنه رافقه كعادته.. اقتربا من أحد المنازل، طرق أدهم الباب، ففتح لهما شاب من أصل روسي مفتول العضلات، فدخلا وقال أدهم: هنا ستجد فتيات من كل الأشكال والأصناف، ما عليك سوى اختيار واحدة وستكون لك خلال دقائق معدودة..
- لا يا صديقي، فأنا لا أحب هذا النوع من النساء، ولا أقترب منهن.. إذا كنت أنت تريد ذلك، افعل ما يحلو لك وأنا سأنتظرك هنا..
- ماذا بك يا وليد، أنا لن أرغمك على شيء.. بل ألق نظرة.. أنظر ما أجملهن..
وحانت من وليد التفاتة نحو النساء المصطفات على أرائك ملونة، غض نظره وهم بالخروج، لكنه عاد فجأة وتسمر نظره في إحداهن.. لاحظ أدهم ما حصل، فقال: يبدو أنك تستلطفها.. هل أطلبها لك؟ أنا سأدفع.
فكر وليد وهو ما زال يحدق في هذه الفتاة السمراء.. ثم تأتأ: إه..إه...
فرح أدهم كثيرا وقال لصاحب العضلات المفتولة: السمراء لصديقي وأنا سآخذ ذات الشعر الأحمر.. ثم توجه كل منهما إلى غرفة منفصلة.. دخلت السمراء وتبعها أدهم، وهناك تكلمت الفتاة بلهجة عربية صحيحة وبلكنة يعرفها وليد جيدا. لاحظت الفتاة بأن الواقف أمامها يتفرس بها ويحدق بنظرات غريبة، فتوقفت عن الكلام وبادلته النظرات، وفجأة سألها وليد: أأنت سعاد؟
فغرت الفتاة فمها ثم استدركت: أنا سيدر...
- أنا وليد يا سعاد، أصبحت طبيبا، وعدتك بالحماية.
- قلت لك أنا سيدر.
- حسنا يا سيدر، خذي نقودك ولا أريد منك شيئا، سأخرج للبحث عن سعاد.
- نهض وليد عن مقعده وهم بالخروج، لكنها استوقفته قائلة: انتظر يا وليد..
التفت إليها وقال: أنت سعاد..
- ممن ستحميني يا وليد؟ قلت أنك ستحميني من الجميع، وهل تستطيع أن تحميني من نفسك؟
- ما زلت على العهد يا سعاد وكنت سأبحث عنك في كل مكان..
- أنا لم أعد سعاد التي عرفتها.. هل سمعت عن المتسولة التي اغتصبها بعض الشبان العرب في إحدى القرى طيلة الليل قبل عدة سنوات؟
- سمعت.. لكن ما دخلنا نحن بذلك؟
- أنا كنت تلك الفتاة!!!
حيفا
موقع العرب يفسح المجال امام المبدعين والموهوبين لطرح خواطرهم وقصائدهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع منبرا حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع على العنوان: alarab@alarab.net