البطريرك بشارة الراعي في مقاله:
الربّ قام حقّاً وتراءى للرّسل على مدى أربعين يوماً ثم ارتفع الى السماء مُحتجِباً على انظارهم
من موته وقيامته وُلدت البشرية الجديدة مثل السنبلة من حبّة الحنطة التي تموت في الأرض
الحياة الإلهية التي نقلَتْها طبيعةُ المسيح البشرية بتجسده نُقلتْ بموته وقيامته الى البشرية جمعاء وهي تتحقّق في كلّ إنسان مؤمن بقوّة الروح القدس
يُدعى كلّ واحد منّا ليموت عن الكذب والنفاق ويقوم لإعلان الحقيقة التي تحرّر وتجمع ليموت عن الشرّ والميل إليه ويقوم لفعل الخير والإلتزام به
نلتمس السلام للعالم ولأوطاننا وبخاصّةٍ للبلدان التي في عالمنا العربي تُطالب وتسعى وتثور من أجل العيش بكرامةٍ وبحبوحة والتمتُّع بحريّاتها الشخصية والعامّة وبحقوقها الأساسيّة، وبأنظمةٍ ديموقراطيّة تحترم كرامة كلِّ إنسان وشعب
المسيح قام! حقاً قام!
1. منذ ألفي سنة والمسيحيّون يُردّدون هذا الخبر المُفرح للبشرية جمعاء. فيسوع المسيح الذي أعلنه ملاكُ الربّ يومَ ميلاده لرعاة بيت لحم «فرحاً عظيماً للعالم كله»، ومات على الصليب فادياً للإنسان، وهو البار، باعتراف قائد المئة الوثني الذي قال: «حقّاً، إن هذا الرجل كان صدّيقاً»، هو إياه قام في اليوم الثالث من بين الأموات. لقد أعلنه الملاك نفسه للمرأتين : «أنا أعلم أنّكما تطلبان يسوع الذي صُلب، هو ليس هنا: لقد قام كما قال. هوذا الموضع حيث كان ربّنا. أسرعا وقولا لتلاميذه: إنه قام من بين الأموات».
المخلّص والفادي
ومثلما رشا رافضو سرّ المسيح، المخلّص والفادي، أحدَ تلاميذه، يهوذا الإسخريوطي، بثلاثين من الدراهم، فأسلمه إليهم بقبلة الخيانة، كذلك رشوا حرّاس القبر الذين أخبروهم عن قيامته وعن الزلزلة العظيمة التي حدثت عندما دحرج ملاك من السماء الحجر عن القبر، «فأعطوهم دراهم كثيرة وقالوا لهم: قولوا إن تلاميذه جاؤوا ليلاً وسرقوه ، ونحن نيام ... فأخذوا المال، وفعلوا كما علّموهم». لكنّ الربّ قام حقّاً، وتراءى للرّسل على مدى أربعين يوماً، ثم ارتفع الى السماء، مُحتجِباً على انظارهم. ولم تُجدِ الرشوةُ نفعاً، فيهوذا شنق نفسه، والمال تبخّر، والكذب انكشف، والحراس المرتشون فقدوا كرامتهم.
اللّقاء بالمسيح القائم
2. ليس إيمان تلاميذ يسوع هو الذي أوجد القيامة، بل اللّقاء بالمسيح القائم من الموت هو الذي ولّد إيمانهم الثابت بحقيقة واقعه الجديد الحيّ لدى الله. فكانوا يُردّدون: «الرب قام حقاً، وظهر لسمعان». وصدى تردادهم يتواصل عندنا بالتحية الفصحية: «المسيح قام ! حقاً قام!».
ليست القيامة نتيجة إيمان التلاميذ، بل بالأحرى هي سبب إيمانهم. فهم كانوا «مجتمعين، والأبواب مُوصدة، خوفاً من اليهود»، عندما كان يظهر لهم في الأحدَين الأولَين. وتلميذا عماوّس كانا عائدَين الى قريتهما محبطَين، كئيبَين، قليلَي الفهم وبطيئَي القلب عن الإيمان، عندما قطع يسوع الطريق معهما حتى القرية، ولم يعرفاه الاّ عند كسر الخبز. والتلاميذ الأحد عشر المجتمعون في البيت من جديد والأبواب موصدة، ارتعبوا واستولى عليهم الخوف، لأنهم ظنّوا أنّهم يرَون روحاً، عندما وقف يسوع بينهم وقال لهم: السلام معكم. أنا هو لا تخافوا». ثم «وبّخّهم على قِلّة إيمانهم، وقساوةِ قلوبهم، لأنّهم لم يُصّدقوا الذين أبصروه قام». وحتى آخر لحظة في تمام الأربعين يوماً وقُبيل صعوده الى السماء، ظلّ بعضٌ من تلاميذه الأحد عشر «مُشكّكين ومُرتابين».
قيامة القلوب
3. على حقيقة القيامة كأساس يرتكز الإيمانُ المسيحيُّ بالخلاص وقيامة القلوب، كما يُؤكّد بولس الرسول بقوله: «إنْ كان المسيحُ لم يقمْ، فباطلٌ تبشيرُنا وباطلٌ إيمانُكم، ونكون نحن شهود زورٍ على الله، لأنّنا شهدنا على الله أنه أقام المسيح، وهو ما أقامه». ويضيف: «نحن نؤمن أنّ يسوع مات وقام». هذا يعني أنَّ من موته وقيامته وُلدت البشرية الجديدة، مثل السنبلة من حبّة الحنطة التي تموت في الأرض، وأنَّ الحياة الإلهية التي نقلَتْها طبيعةُ المسيح البشرية بتجسده، قد نُقلتْ بموته وقيامته الى البشرية جمعاء، وهي تتحقّق في كلّ إنسان مؤمن، بقوّة الروح القدس وخدمة الكنيسة الكهنوتية. بهذا المعنى أكّد بولس الرسول: «اذا اعترفتَ بلسانك أنّ يسوع هو الربّ، وآمنتَ بقلبك أنّ الله أقامه من بين الأموات، نِلتَ الخلاص».
خلق جديد
4. بقيامة المسيح كانت قيامة القلوب، وصرنا خلقاً جديداً، نلناه بالمعمودية التي هي بداية حياة دائمة فينا تقوم كلّ يوم على الموت عن الخطيئة والقيامة لحياة جديدة. أجل كلّ يوم، بنعمة المسيح في سرّ التوبة والقربان وفعل الروح القدوس، يُدعى كلّ واحد منّا ليموت عن الكذب والنفاق ويقوم لإعلان الحقيقة التي تحرّر وتجمع؛ ليموت عن الشرّ والميل إليه، ويقوم لفعل الخير والإلتزام به؛ ليموت عن الظلم والإستضعاف، ويقوم لإحلال العدالة والتحرّر من قيود الإستعباد والإستقواء؛ ليموت عن سرقة المال العام والخاص وعن الرشوة، ويقوم للكرامة والشفافية وكبر النفس وكسب الخبز بعرق الجبين؛ ليموت عن الحقد والبغض، عن الإفتراء والنميمة، ويقوم لحالة المحبة والمشاعر الإنسانية ولاحترام كرامة كلّ إنسان وحقّه في الصيت الصالح؛ ليموت عن العنف الحسّي والمعنوي، ويقوم لروح السلام والإخاء؛ ليموت عن الكبرياء والإمتلاء من الذات والتمرّد على إرادة الله وعلى السلطة في العائلة والكنيسة والمجتمع، ويقوم الى مسلك التواضع والتجرّد وإخلاء الذات والطاعة والوداعة؛ ليموت عن الفساد في الإدارة وعن استغلال السلطة والمسؤولية لمآرب خاصّة ومكاسب فئوية ولتعطيل التنمية بكلّ أبعادها، ويقوم للإلتزام النبيل والمتفاني بالخير العام والنهضة والعمران. وبكلمة موجزة، نحن جميعُنا، بفضل قيامة المسيح من الموت، مدعوّون لنتخلّق بأخلاق المسيح. فنعيش اختبار بولس الرسول: «أنا أحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ».
الإنقسامات والتفرقة
5. ما أجملها تهاني بالعيد أصوغها بإسم إخواني السادة المطارنة، أعضاء السينودس المقدّس، وأقدّمها لكلّ إنسانٍ قريبٍ وبعيد، ولجميع أبناء كنيستنا وبناتها، كهنتها ورهبانها وراهباتها، عائلاتها ومؤمنيها، ولذوي الإرادات الصالحة، حيثما وُجدوا، في لبنان وبلدان الشرق الأوسط وعالم الإنتشار.
من المسيح الذي «هو سلامنا»، وقد حطّم جدران الإنقسامات والتفرقة، وحقّق الأخوّة بين الناس، جاعلاً من الجميع أبناءً وبناتٍ لله ببنوّته الأزلية، نلتمس السلام للعالم ولأوطاننا، وبخاصّةٍ للبلدان التي، في عالمنا العربي، تُطالب وتسعى وتثور من أجل العيش بكرامةٍ وبحبوحة، والتمتُّع بحريّاتها الشخصية والعامّة، وبحقوقها الأساسيّة، وبأنظمةٍ ديموقراطيّة تحترم كرامة كلِّ إنسان وشعب، وتُعزّز التنوّع في الوحدة، وتُشرك الجميع في مسؤولية الحياة العامة، وتنفي الأحادية والفئوية وفرض الإرادة والتحكّم بمصير المواطنين، وتُمكّن كلّ مواطن، من أيّ دين أو ثقافة أو عرق أو انتماء كان، وكلّ مجموعة، مهما كان نوعها، أن يكون وتكون قيمة مضافة في نسيج المجتمع والوطن.
فالمسيح القائم من الموت هو رجاؤنا ومُحقّق أمنياتنا، وبهذا الإيمان نردّد:
المسيح قام! حقاً قام!
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net