خالد منصور في مقاله:
ادركنا اننا سنبقى عرضة للنكبات مادامت افرازات نكبة عام 1948 باقية
لم نجد ما ناكله وحتى لو وجدنا خضارا أو بقولا أو اعشاب فلم يكن معنا من الأدوات ما يمكننا من طبخه
سار الركب جميعا في منتصف الليل نصفهم حافي القدمين يحاولون الإبتعاد عن مواضع القصف الذي كان الصهاينة يقومون به
كل نكبة ونكبة كانت هناك نكبات اخرى لم يعد بامكاننا إحصاؤها بل ويبدو اننا أدمنا النكبات لدرجة أن حدوث حتى الزلازل الطبيعية اصبح يمر علينا كامر عادي
اللاجئون واصلوا التشرد الى ان وصلوا مخيم الجلزون في منطقة رام الله فأقاموا به بضعة شهور وغادروه الى مخيم الفارعة شمالي مدينة نابلس حيث تجمعت اغلبية العائلة هناك
في الخامس عشر من أيار عام 1948 حدث زلزال الفلسطينيين.. إهتزت الارض وماجت ووجد 750 الف فلسطيني أنفسهم مشردين.. قتل من قتل منهم ودمرت مساكنهم وجوامعهم، وحرقت مزارعهم واستبيحت مدنهم وقراهم، وهاموا على وجوههم في الصحاري والوديان، يبحثون عن ماوى يوفر لهم الامن والامان من بطش عدو قرر مسبقا ابادة العدد الاكبر منهم، وتهجير من تبقى ليبني دولته على انقاضهم.. بكاء الاطفال وعويل النساء وانين الجرحى والمتعبين ملأ السماء-- لكنه لم يحرك شيئا في الضمير العالمي الذي تخدر وتكلس متعاطفا مع اليهود كضحايا للنازية، ولم ينبس ببنت شفة وهو يرى ضحايا النازية يرتكبون من الجرائم ضد شعب فلسطين الأعزل جرائم ابشع مئات المرات مما فعله النازيون باليهود.. 531 قرية ابيدت وعشرات المجازر اقترفت والجوع والمرض يفتك بشعب باكمله كان حتى 15 ايار يمتلك كل سمات الشعب والدولة فتحول الى شعب مشرد لاجئ.
الإبتعاد عن مواضع القصف
في ذلك اليوم تشردت عائلتي، وكانت اخر لحظات عيشهم في أم الزينات-- البلدة الفلسطينية الواقعة على سفوح جبل الكرمل على بعد 17 كم من مدينة حيفا، وسار جدي وابي واعمامي تائهين لا يعرفون الى اين يذهبون، والى متى سيغيبون عن بيتهم الذي ولدوا وعاشوا فيه مئات بل آلاف السنين.. واحدة من اخواتي كان عمرها اسبوعين سقطت من على ظهر الحمار الذي وضعتها عليه امي، وكاد الجميع ينساها بين الأعشاب اليابسة لولا ان راها مشرد اخر فأحضرها لأمي.. اخي واحد اعمامي كانو لم يبلغو الثلاث سنوات من عمرهم وضعهم ابي في المشتيل على ظهر الحمار.. سار الركب جميعا في منتصف الليل نصفهم حافي القدمين يحاولون الإبتعاد عن مواضع القصف الذي كان الصهاينة يقومون به..
خائفين على ارواحنا
قالت لي والدتي : ( خرجنا من بيوتنا كالمضروبين على رؤوسنا كانت عصاباة الهاجاناة تحاصر البلدة وتطلق النار في كل اتجاه خرجنا خائفين على ارواحنا، ولدينا اعتقاد ان غيبتنا لن تطول اكثر من اسبوعين-- لان الجيوش العربية ستاتي لتهزم عصابة الصهاينة ).. لم يحملوا شيئا من متاعهم، وانتشروا بأحراش الكرمل ثم اتجهوا لبلدة اجزم-- التي لم تكن قد سقطت بعد.. ومن هناك اتجهوا نحو ام الفحم واحراش عانين، وأمطرت السماء عليهم، وجاعوا ولم يبق حتى أعشاب لياكلوها، فاتجهوا الى مخيم نويعمة في منطقة أريحا لانهم سمعوا ان الصليب الأحمر يقدم للاجئين هناك المأوى والطعام، ثم واصلوا التشرد الى ان وصلوا مخيم الجلزون في منطقة رام الله، فأقاموا به بضعة شهور وغادروه الى مخيم الفارعة شمالي مدينة نابلس حيث تجمعت اغلبية العائلة هناك..
أصعب الأوقات وتحول كبير
جدي لم يكن يستوعب ما يحصل، وبقي في اتظار قدوم الجيوش العربية -- التي لم تاتي -- وبعد ان قرصه وأبناءه وأحفاده البرد والجوع، وبعد ان تكشفت امام عينيه المؤامرة الدولية التي ساهم بها بعض الحكام العرب-- اصيب بصدمة قوية وتمنى لو كان قد مات في ارضه، وشعر بالندم لانه لم يسمح لابنائه باخراج بعض المتاع من بيتهم قبل ان يتركوه على حاله، عامرا بالفراش والملابس والطعام من قمح وطحين وزيت وعدس وبرغل ودجاج وبيض.. وعندها فقط تغاضى عن تسلل بعض ابنائه الى بلدتهم الأصلية والى بيتهم بالذات، لينقلوا بعضا من خيراته الأساسية لتعينهم في مواجهة أصعب الاوقات والتحول الكبير الذي يحصل لهم في حياتهم.
البندقية النصف صالحة
اما ابي الذي كان في ريعان شبابه، والذي وقف مع المدافعين والمقاومين ببندقيته التي كانت نصف صالحة فقد قال لي: (لم نشعر بحجم الكارثة الا بعد اشهر وبعد ان تيقنا ان العودة الى البلدة أصبح دونها الدماء والموت .. وأضاف فقدنا كل شيئ، الأرض والمنزل والمتاع، ولم نجد ما ناكله-- وحتى لو وجدنا خضارا او بقولا او اعشاب فلم يكن معنا من الادوات ما يمكننا من طبخه.. لم نجد مكانا ننام فنمنا تحت الأشجار وفي المغائر.. لم نجد مكانا نستحم فيه فإتجه البعض الى بعض الينابيع ليغطس فيها وينظف جسمه مرة في كل شهر.. وجدنا انفسنا بين ليلة وضحاها يا مولاي كما خلقتني وضاع عزنا وكل ما كنا نملك من الخيرات الوفيرة).
الإستيطان لم يتوقف
لقد كان الخامس عشر من ايار عام 1948 الزلزال الاكبر في تاريخ شعبنا، وهو الزلزال الذي لم ينتهي بعد ولم تتوقف هزاته الإرتجاجية حتى يومنا الحاضر، فبعد الزلزال الاكبر الذي اسميناه بالنكبة الكبرى، حدثت الهزات الارتجاجية على شكل نكبات اخرى، كاحتلال اسرائيل لما تبقى من فلسطين في العام 1967، ومذابح ايلول الاسود في العام 1970، والحرب الأهلية في لبنان في العام 1974، وضرب قواعد منظمة التحرير في لبنان في العام 1982، وكان الإستيطان الذي لم يتوقف منذ بدء الاحتلال ولغاية اليوم، وكان الجدار في العام 2002، واخيرا وليس اخرا كان الانقسام الداخلي الرهيب في العام 2007..
هزات ارتجاجية
وبين كل نكبة ونكبة كانت هناك نكبات اخرى لم يعد بامكاننا إحصاؤها، بل ويبدو اننا أدمنا النكبات لدرجة أن حدوث حتى الزلازل الطبيعية اصبح يمر علينا كامر عادي-- ليس لاننا لم نعد نحس بل لاننا مؤمنون بان كل ما يحدث هو هزات ارتجاجية تسببت بها وتسببها زلزلة عام 1948-- وان هذه الهزات لن تتوقف ما دامت زلزلة عام 1948 باقية.. وبعبارة أوضح ادركنا اننا سنبقى عرضة للنكبات مادامت افرازات نكبة عام 1948 باقية..
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net