يقول حنا مينة انا كاتب الكفاح والفرح الانسانيين، فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذته العميقة، عندما تعلم انك تمنح حياتك فداء للاّخرين.. انك تؤمن في اعماقك ان انقاذ الناس من يراثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بان يضحى في سبيله.
ويقول الكاتب عن مهنته الاخيرة، مهنة الكتابة ليست سوارا من ذهب، بل هي اقصر طريق الى التعاسة الكاملة، ويضيف حنا مينة لا تفهموني خطاّ، الحياة اعطتني بسخاء، يقال انني اوسع الكتّاب العرب انتشارا، مع نجيب محفوظ بعد نوبل ومع نزار قباني وغزلياته التي اعطته ان يكون عمر بن ابي ربيعة القرن العشرين، يطالبونني في الوقت الحاضر، بمحاولاتي الادبية الاولى، التي تنفع الباحثين والنقاد والدارسين، لكنها بالنسبة لي ، ورقة خريف اسقطت مصابيح زرق .
ان البحر كان دائما مصدر الهامه، حتى ان معظم اعماله مبللة بمياه وموج البحر الصاخب.
لم اقصد في البداية ذلك يقول، لانّ لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش ، قروش البحر، كان صراع حياة واما العواصف فقد نقشت وشما على جلدي اذا نادوا يا بحر اجبت انا ، البحر انا فيه ولدت وفيه ارغب ان اموت. يقول الروائي حنا مينة: امنيتي الد ائمة ان تنتقل دمشق الى البحر، او ينتقل البحر الى دمشق، اليس هذا حلما جميلا السبب انني مربوط بسلك خفي الى الغوطة، ومشدود بقلادة ياسمين الى ليالي دمشق الصيفية الفاتنة وحارس مؤتمن على جبل قاسيون، ومغرم متيّم ببردى، لذلك احب فيروز والشاميات.
المصابيح الزرق بكل بساطة رواية تصوّر حياة جماعة من الناس البسطاء ايام الحرب العالمية الثانية، ومن ورائها حياة اللاذقية وسوريا او بكلمة واحدة تصوّر الجو المحموم الذي كانت تعيشه سوريا ايام الحرب، فاذا صحّ ان تكون لكل قصة عقدة، فعقدة المصابيح الزرق هي ازمة الحرب، وقد تحاور هذه الفكرة، اثر الحرب في الناس، الى تصوير حياة كاملة تلعب فيها ازمة الحرب دورا كبيرا، ولكن الدور الاكبر هو لمجموعة هؤلاء الناس يضطرون تنسياب ال الكتاب.. كيف يحبون وكيف يعامل بعضهم البعض، وكيف يكافحون في سبيل العيش، وكيف ترتبط مصالحهم الخاصّة بقضايا امتهم، وكيف يفهمون النضال.
انها بالاصح قصة حياة مجموعة من الناس اخذت احداثها في فترة تاريخية معيّنة، فالقصة، وان كان الحافز الاول لكتابتها هو الحديث عن الحرب كيف تغيّر الناس، وتسوق حياتهم في مجار جديدة غير طبيعيّة، فانّ الهدف، بعد ان بداّت الفكرة تصبح عملا، ونماذج الابطال شخصيات حيّة متحركة، خرج من يد المؤلّف ليصبح نوعا من البانوراما_ المنظر العام_ لحياة صادقة، صحيحة.
واما الصراع مع التاريخ فقد تضمنه رواية المصابيح الزرق يقول المؤلف: واذا كان الاستعمار هو قدر الشعوب العربية، فهو في الواقع سرطان يفتك بالروح والبدن معا، ويترك الاوطان في دياجير الجهالة والعماء، بل يعيدها الى عصور ما قبل التاريخ والنضال ضد الاستعمار وتحدّي وسائله القمعيّة وفلسفته العنصرية، وروحه التدميرية واجب الانسانيّة وله الاسبقية والاولوية على صراع المجتمع والطبيعة.
ان رواية المصابيح الزرق تعود بنا الى البلد سوريا اثناء الحرب الكونية الثانية يوم كانت سوريا تحت الانتداب الفرنسي، وما لاقاه الشعب من ضيم وهوان ومرض وفقر وجهالة. لاشك ان الرواية تنجح نجاحا منقطع النظير في جذب القارئ لكاّنه يعيش تلك الفترة والمرحلة ويعيش مع ناسها الفقراء والتعساء في جدّهم وبشم رائحة العفن في الاقبية
ورائحة الابدان التي تزكم الانوف، ويتقزز من بركه الممتلئة، ومن معيشتها المضنية في ذلك الحي الفقير، لكن العبودية تنتهي حين يعي الفرد وضعه ويسعى للتخلص من نير الظلم بالكفاح ونشر الوعي السياسي بين ابناء الشعب، ولتحمّل المناضل السجن والمنفى والتشريد، فالوطن قضية والتضحية لاجله واجب، وهذا ماانبثق في وعي الفتى ( فارس) بطل الرواية الذي مات على يد الفرنسيين تعذيبا وتنكيلا، تاركا غضبه في حلق والده سرعان ما تحولت الى راحة وسلوى لان شهادته حفل زفاف ولان فارس بفكرته الثورية وتضحيته زرع في رحم البلد الاف الفتيان ممن يحملون لواءه ويواصلون رسالته حتى النصر.
حنا مينة احد عمالقة كتاب الرواية في سوريا والوطن العربي، هو اديب الحقيقة والصدق، عصامي ساهم في اغناء الرواية العربية وعمل باجتهاد حتى اجاد وابدع، يتحدّث في معظم قصصه ورواياته الواحدة والاربعين عن البحر ويصف حياة البحارة في اللاذقية وصراعهم على متن المرلكب والسفن ومع اخطار البحر.
المصابيح الزرق هي رواية حب الوطن.. ورحلة البحث عن الثروة.. بين العيش على ارض الوطن وكاّبة الاحتلال الفرنسي الى مغادرة الوطن والتحول الى الخيانة وخدمة العدو... في الخضم يصف لنا حنا مينة الخليط الاجتماعي في تلك الفترة وفي هذه الرواية يظهر البطل الجماعي الذي يعكس تطور الوعي الاجتماعي وصراع البطولة الجماعية في مواجهة الاستلاب والماّساة التي تعيشها .
ان البطل الروائي في اعمال استاذنا الجليل كما اعتقد هو بطل واقعي مهمته الاساسية الاحتجاج على الواقع ونقده ويستطيع البطل الايجابي دائما تجاوز العراقيل وايجاد فرصة الانسجام مع محيطه الاجتماعي في نضاله ضد عدو يهدد مجموعته.
والمصابيح الزرق هي روايته الاولى الي كتبها سنة 1954 واستغرق في تاّليفها ثللث سنوات، انها لم تكن رواية شخصية او بطل، بقدر ما كانت ترمي الى وصف مدينة اللاذقية اثناء الحرب وحياة الناس الذين كانوا يعيشون فيها فموت البطل( فارس) بعد انخراطه في جبش الحلفاء يتناقض مع وعيه السياسي وقد كان الكاتب مهتما بالماّساة الاجتماعية ولذلك ظل يبحث في هذا العمل عن مرض خطير كمرض السل يضع حدّا لحبكته.
واظنني ان الرواية تسعى لان تكون ذات بطل ايجابي وفارس هو فعلا شخصية متميزة اذ يمر بتجارب فردية وجماعية تضعه على اختبار وتنويع بين الشخصيات الثلاثة التي تلعب ادوارا هامة. ومع ذلك فان الرواية تعرض حكاية بطل ومجتمع في اّن واحد. ففارس لم يتجاوز ال16 عاما من عمره كان يعيش مع اسرته في اللاذقية اثناء الحرب لكنه يترك الدكان الذي كان يعمل فيه لان صاحب الدكان يدعى الى الحرب فيجد فارس نفسه يعيش في فراغ قاس في بيت فقير عبارة عن غرفة على باب كبير لسكن جماعي يلتقي بعض العمال والبطالين وبعض القرويين الذين استقروا بالمدينة، يتخاصم مع البعض ويدخل السجن من جراء الفراغ والبطالة وفي ظلهما يحب فتاة يحب جارته اسمها(رندة). والد فارس ظل متسلحا بالصير وكذلك امه، اذ كانت حبيبته تعمل مع امه في الربحي، ونعثر في الرواية على حسن حلاوة الخائن، وظل المختار رغم انه الممثل الشرعي للسلطات الرسمية ظل يحرّض على الاضراب والمظاهرات الشعبية التي كان يقودها وقد طليت المصابيح بالازرق زمن الحرب ومن هنا جاءت تسمية الرواية، وهذه الرواية تقوم على حكايتين، حكاية بطل وحكاية وطن.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net