وتشاء الاقدار ان يطل علينا يومٌ ربيعيٌ هادئ، رطب ذو مناخ معتدل رغم اننا في خضم فصل الخريف الخرفان عادة، فلا رياح عاتيه ولا شمس حارقه، بل صمت وسكون، كأنه يتهيأ للعواصف، حيث كانت قبله موجة أيام ماطره أخمدت أنفاس الأشواك القاسية وتفتحت من الأرض أعشاب خضراء جميلة كوردات البرقوق الاحمر التي فرشت مساحات واسعه من مروج الزيتون واراضي الحقول المجهزة لزراعة البقول فرشت بسجاد احمر فاتح رصعتها ببعض الأزهار البيضاء التي زادتها رونقاً وجمالاً .
انتهزناها فرصه جميلة للتنزه بين أحضانها، والطبيعة ترحب بنا، بإرسالها نفحات متواصله من روائح النرجس وزهور القندول الصفراء مع النسيم العليل الذي كان يمر بين شجيرات السنديان والبلوط والخروب ليشرح صدورنا مستعيناً ببعض الغيمات التي كانت تتسابق لتغطي أشعة الشمس الحارقه، دافعه إياها إلى الغروب رفقاً وشفقه علينا .
ويصل بنا الترحال دون أن نشعر بالتعب لنقف على جبل صخري كاشف على بحيرة طبريا من جهته الشرقية وعلى المتوسط من جهته الغربية، وإذ بالشمس أخذت تحط رحالها لتغوص وراء البحار في زياره جديده لبلاد الله الواسعه، تاركه الساحه لخيوط ابنها التي اخذت تغزو السماء مطاردة من قبل جيوش النجمات، فيشق القمر طريقه بين تلك الطوابير التي أمست كأنها جنود شرف ترفع المحبة للضيف القديم المتجدد يومياً، وما هي إلا لحظات ليظهر ذلك البدر ويتربع على انفاس العتمه بعد رحيل الشمس محاولاً أن يضيء الكون بأنواره التي تمده بها أمه الحنون .
ونجلس على الصخرة نتأمل الدنيا وما فيها من جمال الطبيعة والكون، وفجأةً يلفت انتباهنا عدد من الأجران المحفورة في الصخر ممتلئة بالماء الصافي كعين الديك، فارتشفنا منها حتى ارتوينا من ظمأنا، واعتبرنا كيف أن نقط المياه المتواصله قدرت أن تحفر أجرانا في الصخر القاسي، وتذكرنا احد دروسنا بعنوان المثابره على الدرس، اي كيف ان العمل الدؤوب يعطي النتائج الخيره الجيدة .
وبينما نحن نراقب مسيرة البدر متمخطراً بين النجمات، ونتفحص نظرات النجوم ألينا تذكرنا قصة الراعي الفقير مع الملك، حيث تقول إن راعياً كان عائداً من رعي قطيعه من الماعز والغنم وهو يرتدي لباسه الممزق المرقع، وإذ به يمر أمام قصر الملك المشرف على البحر، ويلفت انتباهه مستغرباً ان أمام القصر حبل مشدود ومعلقه عليه رؤوس أناسٍ كما يُنشر الغسيل للتجفيف، وتحت كل رأس مكتوبه مهنة صاحب الرأس فمن محامِ إلى طبيب إلى مهندس وأستاذ وغيرهم من الشخصيات المتعلمة الراقيه،فدفعه الفضول وسأل الحاجب، ما الأمر ؟ ما هذا العرض الغريب ؟ فأجاب الحاجب بجدية : " إن الأرق اخذ من الملك مأخذه، فطار النعس من عينيه ولم يستطيع النوم، فألقى بمعجزة على أبناء رعيته يقترح توريث نصف مملكته لمن يستطيع أن يساهره ويسامره دون أن ينام، وما إن ينام فيقطع رأسه، وهكذا تتقدم أصحاب الأقلام وكتاب القصص ورجال قانون وأطباء وغيرهم، وكلهم فشلوا فقطع رؤوسهم وعلقها ليتعظ كل من يريد المغامره " .
فقال الراعي : " أنا استطيع أن أسامره ولن أنام "، فنهره الحاجب وقال:" أتهزأ مني ؟! كل هؤلاء العباقره فشلوا، فهل تستطيع أنت أن تنجح ؟" .
فضحك الراعي وقال جاداً : " اذهب إلى سيدك وقل له أن هناك راعياً مهمشاً يلبس لباساً ممزقاً مرقعاً، يقول انه يستطيع أن يسليك، فأنتم لم تحددوا مهنة القصصي!! " .
فدخل الحاجب إلى الملك وقال له ما سمعه من الراعي، فأستبشر الملك خيراً وقال : " ادعه، يجوز أن هؤلاء الرعيان لهم قصص كثير وقد ينجح . "
دخل الرجل وألقى واجب التحيه وجلس إلى جانب جلالته وبدأ بقصته الأولى فأستأنس الملك بالحديث وأنشرح صدره، حيث استمرت القصه أكثر من ساعتين، والراعي مرهق ومتعب من عمله كل نهاره في رعاية قطيعه، فنعس وكبا، فهز الملك وسأله : " اهدس أم نعس ؟ " فقال المسكين : " هدس يا سيدي !! "، بماذا ؟، " في رب الكون جل جلاله، كيف خلق هذه السماء وثبتها دون أعمده أو حبال ! ".
وجاءت القصة الثانية، تستمر ساعتين أخريين، فيغلب النعس على الراعي التعبان ثانية، ويهزه الملك بنبره قاسية: " اهدس هذا أم نعس ؟ " فيجيبه المسكين خائفاً : " هدس يا جلالة الملك"، بماذا ؟، " برب العرش عز وعلا، كيف رصع هذه السماء بالنجمات الجميلة المختلفة، تسرح بينها الشمس فتطفئ نورها نهاراً، ويسبح البدر بينها ليلاً دون أن يستطيع إخفائها، لكنه يتمخطر بينها كأنه العريس المجلا "، فيهز الملك رأسه قائلاً : " اجل انها معجزه رب العالمين تبارك وتعالى ".
وهكذا يستمر المسكين في ورطته وبعد كل قصة يكبو ويجد حجة جديدة، مثل البحر وأمواجه من مخلوقات العلي القدير، ولما نفذت ذخيرته القصصية وان قطع الرأس اصبح لا بد منه، نفذ صبره، فلما أعاد صاحب الجلالة والسيادة السؤال، انفجر اليائس قائلاً : "نعم هدس يا سيدي"، بماذا ؟، " برب البرية لا اله الا هو، الذي خلقك، بل خلقكم انتم أولاد الحرام : لا بتناموا ولا بتخلوا حدا ينام .." وصمت.
فيا أبناء شعبنا العربي الفلسطيني الابي، يا من تأججوا الشهامه والشآمه العربية الاصيلة والأخلاق الحميدة والنخوة والتسامح والسماح والكرم والعطاء والمحبه والإخلاص في عروقكم : احذروا أولاد الحرام الذين نأمل ان يكونوا اقليه اللي ما بناموا ولا بيخلوا حدا ينام.