برنارد طنوس في مقاله:
لم تترك الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة فرصة الا واكدت بها على عنصريتها المعلنة والمستترة بسن القوانين الظالمة أهمها "يهودية الدولة"
نحن على اعتاب مرحلة دقيقة وهامة وخطيرة علينا أن نعيد الى الطاولة "اجهزة استشعارنا" الواقعية السياسية "الانتهازية" المغرقة في"الوصولية" والبعيدة كل البعد عن "الرومانسية الثورية
كما يبدو فإنّ عهد بنيامين نتنياهو سينتهي يوم الثلاثاء المقبل بحسب الاستطلاعات والتسريبات الداخلية من حملة الليكود. اذا ما صدقت هذه التوقعات فاننا على عتبة تغيير في الحكم لم تشهده اسرائيل منذ 1999، باعتبار أنّ فوز شارون وحقبة كاديما هي تحول من اليمين الى المركز.
ولمن يتذكر انه وعقب فوز باراك على نتنياهو عمت اجواء من الفرح المفعمة بالامل التي رافقت الكثير من مؤيديه ليلة اعلان النتائج، ومنهم المواطنون العرب الذين وصلت نسبة اقتراعهم الى اكثر من 90% (بانتخابات رئاسية مباشرة، من مجمل 75% نسبة المشاركة العربية في تلك الانتخابات).
وبعد ليلة الانتصار تلك اختفت الوعود وصودر الامل وتبدلت الابتسامات الى مواجهات اليمة ودامية في اكتوبر 2000 وانعدمت بعدها الثقة تماما بين المواطنين العرب وبين اجهزة الدولة المختلفة، واستبدلت مقولة ان "دولتي في حرب مع شعبي" بشعور ان "دولتي في حرب ضدي"! والحالة هذه، تداعى بعض السياسين والمنظرين من النخبة الاكاديمية والحزبية للمراهنة على البدائل ومنها التوجه الى الحاضنة العربية والبحث عن عون قانوني وشعبي وسياسي من المؤسسات الدولية، بل واغرق بعضهم في التحشيد لمناهضة ما اسموه "مشروع الاستعمار الصهيوني"، وكأننا في مرحلة قبل قرار التقسيم 1947.
من الناحية الاخرى كذلك لم تترك الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة فرصة الا واكدت بها على عنصريتها المعلنة والمستترة، بسن القوانين الظالمة، اهمها "يهودية الدولة"، والنهج البوليسي المخابراتي في تعاملها مع المواطن العربي اينما كان. بل وتمادت في تجاهل حقوقه الاساسية البديهية ومنها الحق بالارض والمسكن والعمل والتعليم. ليس هذا فحسب بل أنّ الشرطة نفسها اقدمت على اغتيال ستة وخمسين مواطنا عربيا اعزلا في عقد ونصف، عدا شهداء اكتوبر 2000، كان آخرها قتل الشبان الثلاثة خير حمدان وسامي الجعار وسامي الزيادنة.
الحالة الصدامية وكأنها اثبتت للقاصي والداني، أنّه لا حل ولا أمل ولا طريق آخر امام الجماهير العربية سوى سكة المواجهة مع قطار السلطة، مواجهةً حتميةً، شعبية، شاملة ولربما عنْفيةً، وانه، وما هي الا مسألة وقت، حتى تشتعل" انتفاضة شاملة في الداخل"، وتجلى ذلك في مواجهات "برافر" وكذلك في العدوان على غزة في صيف 2014.
لقد آمن المراهنون أنّ المواجهة ستؤدي الى "توحيد ساحات المواجهة" حسب مقولة "وحدة مصير الشعب الفلسطيني" بمركباته الثلاثة، اللجوء، والداخل، والمناطق المحتلة عام 67.
الا ان تلك المراهنة فشلت تماما، لسببين: اولهما، أنّ غالبية غير المحزبين وغير المؤطرين، وهم الاكثرية المطلقة، لم تُلقِ بالا لمفعول خطاب التعبئة وسارت كما سار آباؤنا واجدادنا منذ النكبة، وفق آليات استشعار خاصة فرضتها مراحل حاسمة مصيرية، فهي متوجسة ومتيقظة وشديدة الحذر وتتعاطى باكبر قدر من التعقل والمداراة مع الاستحقاقات الواقعية، دون انتظار "الفرج" العربي ولا الدولي.
وثانيهما، تحول المحيط العربي، امام ناظرنا، واقعيا ومأساويا وغير قابل للتأويل، الى سراب مركب من "ولايات" مقتتلة فيما بينها تقطعت فيها اوصال دول اقليمية كانت "قبلة" بعض المنظرين والمفكرين، ليس هذا فحسب بل عجزت المنظومة الدولية المذكورة اياها، عجزت عن وقف أي موبقة من موبقات الحروب الاهلية الطاحنة هناك، لا بل لم يحرك العالم ساكنا عندما دمرت مدن كاملة وهجر الملايين من حواضرها وقتل مئات الآلاف على مرأى من الكون وسمعه.
وبالنتيجة سقطت رهانات المنظرين والداعين الى التعبئة التوتيرية، وانعكس السقوط المدوي في استطلاعات الرأي التي طالبت اقطاب "القائمة المشتركة"، بالمشاركة في الائتلاف (60% ) او الدخول الى الحكومة (50%). (רוב הציבור הערבי בעד הצטרפות לממשלה. هآرتس، 20.02.15).
بالتالي ونحن على اعتاب مرحلة دقيقة وهامة وخطيرة، علينا أن نعيد الى الطاولة "اجهزة استشعارنا" الواقعية السياسية "الانتهازية" المغرقة في"الوصولية" والبعيدة كل البعد عن "الرومانسية الثورية"، وأن نؤكد اننا جزء لا يتجزأ من اللعبة السياسية الاسرائيلية، بحلوها ومرها، ومن صميم داخلها. أن نعطي فرصة لأنفسنا لكي نجرب كل الابواب الموصدة، وأن نصطدم بالاجماع الصهيوني ألف مرة، وأن يتم اخراجنا من الباب لكي نطل براسنا من الشباك!
من يذهب الى انتخابات اليوم دون رصيد الأمل والمستقبل، وإن كان الأمل مخاتلا، وفي جعبته خطة استنفاد الاحتمالات للمشاركة في الحكم من بعيد او قريب، والابتعاد عن خطاب التوتير والتقوقع، فانه يثبِّت متلازمة (سيندروم) باراك: "اليسار، في احسن الاحوال، مثل اليمين"!
واذا ما تم دمغ هذه المعادلة في قلب الخيار السياسي، وانعكست فعليا صورتها العدمية غير المجدية للجماهير العربية، فلا يلومنَّ الا نفسه في كيفية التعاطي مع الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، ولا شك أنّها أقرب مما نتوقع دائما، اذ كيف ستقنع الناس انك، مرة أخرى، امام "أم المعارك"؟!