البروفيسور احمد الناطور في مقاله:
حضور فئات المجتمع المنقسم على ذاته في تشكيل المحاكم ينبغي ان يكون احد اهم المعايير المعتمدة لدى انتخاب قضاة المحاكم
الواقع وُلد مراً ثم امتدت مرارته حتى يومنا هذا منذ سنوات الستين لم يكن في القضاء الإسرائيلي من العرب سوى القاضي كتليه والقاضي جرجورة
كان عدد القضاة العرب في سلك القضاء الإسرائيلي العام سنة 2008 أربعين قاضيا من عدد اجمالي قدره 580 قاضِيا وقاضية – أي ان العرب قد شكلوا 7% فقط من العدد الإجمالي
نحن نسأل هل حقا لم يكن هناك مرشحون عرب للمحكمة العليا او للمركزية؟ هل حقا لا يتقدم العرب الى القضاء؟ ام أن معناه ايًا من المرشحين اليهود هو بحكم الطبيعة اكثر تفوقاً جينيّاً على أي من العرب فينجح ويفشلون؟!
نعتقد ان إسرائيل ما دامت لا تزال ترى نفسها في اوج عملية الحرب والاستيطان الكولونيالي ضد الفلسطينيين في الداخل والخارج
لا خلاف بين أي احد، على أنّ تشكيل النظام القضائي ينبغي أنّ يعكس مركبات المجتمع الذي يعمل فيه (Social Reflection)، خاصة انْ كان هذا المجتمع منقسمًا على ذاته انقسامًا عميقًا بفوارق طاعنة في القِدَم – Deeply Divided. وقد اعترف بذلك قادة القضاء الإسرائيلي مراراً، من خلال تقرير لجنة القاضي زمير، بشأن اعداد احكام اعمال لجنة اختيار القضاة (2001) او كتابات البروفيسور شمعون شطريت وغيره، ثم عاد عليه مدير المحاكم في حينه القاضي موشي غال امام لجان الكنيست وهو يعرب عن حسن نيته وعمله الدائبيْن في سبيل التحري عن مرشحين لائقين للقضاء من العرب ؟؟!.
إن الفرضية الأساس لهذا القول هي أنّ المحكمة ان لم تكن تعكس مركبات المجتمع الذي تعمل فيه، فانها تكون مغتربة عنه اغترابا مُطبقا من حيث الاشكال والمباني ومن حيث المفاهيم والمعاني، وبالتالي فانها تفقد مصداقيتها لديه - وهو مبدأ يصح في كل زمان ومكان. اما في حالنا الذي نحن فيه، فان لهذا المعيار بعداً إضافياً ظاهراً، على خلفية الصراع المرير بين اليهود والعرب – الامر الذي يزيد الطين بلّة، ويُسرف في تعميق الاقصاء من جهة والاغتراب من جهة أخرى ، بكل ما تعلق بالعلاقة الهشّة بين الدولة ومواطنيها الفلسطينيين.
لذا، فان حضور فئات المجتمع المنقسم على ذاته في تشكيل المحاكم ينبغي ان يكون احد اهم المعايير المعتمدة لدى انتخاب قضاة المحاكم، وهو لا يقل أهمية عن معيار الكفاءة والمهنية. لقد فطن لهذا الامر القضائيون الإسرائيليون فور وضع الحرب اوزارها، فاقترح قاضي المحكمة العليا ، ومستشار الحكومة الأسبق حاييم كوهن انذاك، تعيين ثمانية قضاة من اليهود وستة من العرب ، الا انه لم يعين من العرب غير قاض واحد. رغم هذا القول النظري، فان الواقع وُلد مراً ثم امتدت مرارته حتى يومنا هذا. منذ سنوات الستين لم يكن في القضاء الإسرائيلي من العرب سوى القاضي كتليه والقاضي جرجورة – بل ويمكن القول انه على امتداد عشرين عاما من بعد حرب 48 لم يكن سوى القاضيين المذكورين، ثم عين ثلاثة اخرون في نهاية ذلك العقد.
والحقيقة هي أنّ هذا النهج لم يتغير فيما بعد بل ازداد بالنسبية سوءاً. لقد كان عدد القضاة العرب في سلك القضاء الإسرائيلي العام سنة 2008 أربعين قاضيا من عدد اجمالي قدره 580 قاضِيا وقاضية – أي ان العرب قد شكلوا 7% فقط من العدد الإجمالي ، واليوم هم اثنان وخمسون من العدد الإجمالي البالغ 672 قاضيا، وهو ما يعادل 7.7% ، منهم واحد في المحكمة العليا، عشرة في المحاكم المركزية والباقي في محاكم الصلح والعمل والعائلة. يشار هنا الى ان مركزية القدس، ومركزية الوسط ، ليس فيهما قاضٍ عربي واحد ! لقد برّر دانييل فريدمان الذي استوزرته إسرائيل على القضاء، ذلك بقوله، "ان هذا ليس تمييزاً عنصريا، وانما"هو عائد لقلة المرشحين العرب ومثله كان يجيب رئيس المحكمة العليا السابق أهارون باراك، لمطالباتي العلنية المتكررة بضرورة رفع التمييز ضد العرب في تعيين القضاة فيقول : "اين هم المرشحون العرب ؟". ونحن نسأل هل حقا لم يكن هناك مرشحون عرب للمحكمة العليا او للمركزية؟ هل حقا لا يتقدم العرب الى القضاء؟ ام أن معناه اياً من المرشحين اليهود هو بحكم الطبيعة اكثر تفوقاً جينيّاً على أي من العرب فينجح ويفشلون؟!
أما رئيسة المحكمة العليا فقد ارتأت أن تقول في اجتماع لجنة تعيين القضاة الأخير – مطلع هذا الشهر، والذي لم يُعيّن من خلاله قاضِ عربي واحد: ان الاعتبار الوحيد لتعيين القضاة هو الكفاءة! أي انه ان كان هناك مرشحون عرب ولم ينتخبوا فهم ليسوا اكفاءًا ! والحقيقة هي ان الوزيرة او احد قضاة المحكمة العليا او جمع من سائر أعضاء اللجنة هم الذين يحق لهم ان يطرحوا أسماء المرشحين للتصويت امام اللجنة – معناه انه ان لم يُطرح اسم لمرشح عربي فلن يصوت على ترشيحه احد. هذا ومع اني اعلم كغيري ان هناك من المرشحين العرب للوظائف القضائية في درجات القضاء كلها من أولها الى أخرها، لم يجرِ اختيارهم، فان معنى ذلك ان جهاز القضاء هذا مُصابٌ بالفوقية العنصرية التي تؤمن بتفوق العرق اليهودي وتردي العرق العربي. اننا نعتقد ان إسرائيل ما دامت لا تزال ترى نفسها في اوج عملية الحرب والاستيطان الكولونيالي ضد الفلسطينيين في الداخل والخارج، فإنها لم تشرع ب"بداية جديدة"، او ما يسمى "نيو دييل" على غرار غالب دول الغرب، فلا مصالحة تاريخية ولا ثورة تشريعية او سياسية تكوّن بداية جديدة تبشر بنقطة تحوّل تاريخي، وفي هذا الحال، فإنها تبقى في احسن أحوالها ديمقراطية اثنّية تقتصر على اليهود فحسب، وتظل دولة ابرتهايد بامتياز إزاء العرب.
للمقارنة فقط نشير الى ان الشعب الأمريكي، الذي تحب إسرائيل ان تتشبه به في كل شيء، قد قَبل تعيين قاضِ يهودي في المحكمة العليا لأميركا كلها حتى منذ سنة 1916 ، وهو لوي دمبيس براندس ، ثم تلاه تعيين بنجامين كردوزو. وقد حرص رؤساء الدولة الاتحادية باستمرار على وجود قاض يهودي واحد على الأقل – في المحكمة العليا – على مر السنين . اما اليوم فهناك ثلاثة قضاة يهود في المحكمة الامريكية العليا ، وذلك من مجمل القضاة التسعة الذين يشغلون كراسي المحكمة – وهم ستيفن براير ، وروت بايدر جينسبورغ وإيلانة كاغان. ان هؤلاء الثلاثة يشكلون ثلث عدد قضاة المحكمة مع ان نسبة اليهود في الولايات المتحدة كلها لا يتعدى 2% . ومع ان الرئيس الأمريكي قد ارتأى تعيين امرأتين من اليهود في المحكمة العليا فان لجنة تعيين القضاة الإسرائيلية لم ترَ من المناسب تعيين حتى امرأة عربية واحدة في احدى محاكمها المركزية حتى الان ..!
لقد توسمنا خيرا بان هناك لأول مرة عضوين عربيين في اللجنة وهما يشكلان اكثر من 22% من مجمل أعضائها التسعة ، الا اننا لم نرَ حتى الان مردوداً ملحوظا لذلك على عدد المختارين العرب ، ولكن املنا بهما كبير في ان ينعكس حضورهما على إحداث تغيير ثوري في هذا الواقع المر . يُظهر احد الأبحاث المنشورة حديثا ان إقامة محكمة الناصرة المركزية، لم تكن لاسباب قضائية موضوعية ، أي انه في الواقع لم تكن هناك ضرورة لاقامتها من حيث متطلبات العمل . ذلك ان عدد الملفات كان ضئيلا للغاية ، وانه لم يكن في الواقع عمل كافِ لثلاثة قضاة متفرغين فيها. الا ان الهدف الحقيقي وراء اقامتها كان سياسيا بحتا، وهو محاولة لتقريب السكان العرب في منطقة الناصرة الى جهاز القضاء الإسرائيلي وترسيخ ثقتهم به.
لذلك فقد دعي الى احتفال افتتاح المحكمة سنة 1968 أعضاء الكنيست العرب ، ورؤساء مجالس ومحامون عرب . من ناحية أخرى ومن المنطلق ذاته فقد درجت العادة على ان يكون رئيس محكمة الصلح في الناصرة عربيا، واستمر ذلك الى ان ارتقى اخر رئيس عربي لمحكمة الصلح الى منصب نائب رئيس المحكمة المركزية فعُيّن رئيس يهودي مكانه. ان المطلوب اليوم وبكل الحاح: زيادة القضاة العرب في درجات القضاء كافة ، فالادعاء بعدم الكفاءة او بشح المرشحين هو ادعاء مستفّز ومُهين كما انه مردود على أصحابه . كذلك يجب زيادة عدد قضاة المركزية من العرب بشكل حقيقي مع ضرورة ادخال العنصر النسائي العربي، الى جانب تعيين ثلاثة من القضاة العرب في المحكمة العليا.
أما رئاسة محكمة الصلح في الناصرة فيجب أن تبقى مُشكّلة من قاضٍ عربي، ومثلها نيابة المحكمة المركزية هناك. ان عدم الاخذ بمبدأ التمثيل الانعكاسي لمركبات المجتمع، سوف يؤتي نتائج خَطرة ، كان ذوو الفطنة من المسؤولين الأوائل يعونها تماماً، وهي ان المجتمع العربي لن يقبل ان يكون مستهلِكا لقوانينهم ولمطبّقيها - بصفة مفعول ٍبه منصوبٍ بفتحة لا تقوى على اغلاقها النوايا الحسنة ، او بصفة مضافٍ اليه مجرورٍ بكسرةٍ بحجم الكرامة - دون ان يكون شريكا فاعلا لا في التشريع، ولا في التطبيق القضائي. وان لم يكن شريكاً حقيقيا ، فانه سيفقد ثقته بكليهما تشريعا وقضاءا بأسرع مما يتوقع الراشدون. ذلك لان غياب التبادلية بين المواطن العربي الأصيل وبين القضاء الذي يكون اذ ذاك عليه دخيلاً ، معناه فقدان مقومات المواطنة، وجعل العربي متلقيا او شيئا من مادةٍ للدوْس والاستهلاك فحسب. وحين لا يكون العربي منتمياً الى عمليتيْ التشريع والقضاء الغريبتين عنه أصلاً، فان طريقه الى الاغتراب وتحري البدائل عليه أقرب.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net