أخبرني أحدهم قائلا: "عدت إلى البلدة من المستشفى في المدينة ساعات الفجر الباكر، قضيت ليلة إلى جانب زوجتي التي أنجبت الابنة السّادسة لنا، وصلت برفقة فاعل خير إلى مدخل البلدة، أنزلني هناك وتابع، ووقفت أنتظر من ينقلني إلى البيت. أعرف أنّي سأنتظر طويلا ففي هذه السّاعات لا حركة ولا حياة".
يقول، متابعًا حديثه: "قلت في نفسي: "لن أجلس على قارعة الطّريق؛ فاستدرت وسرت، حتّى جلست بعيدًا عن الرّصيف على صُخيرة صغيرة، ولم أود الجلوس خشية أن يأخذني النّعاس الذي يصارع عينيّ منذ مدّة. فأنا تعبان مرهق بالكاد تحملني رجلاي... حملقت في الفضاء الواسع وهو فراغ قاتل، ولكنّي استسلمت وجلست. يظهر أنّ النّعاس تغلب على جفنيّ فما أن أخذتني غفوة حتّى جاءني... وقف أمامي حسن المنظر جميل الثّياب؛ فذكرني بشيخ نجد أمام السّقيفة. ما زلت أصارع جفاف الرّيق في حلقي لهول المفاجأة حتّى بادرني قائلا: "أحدّثك شيئا ينفعك. وقبل أن أجيب ذكرت صاحب أبي هريرة؛ فتشجعت وأشرت له بنعم".
فبدأ حديثه: "دخلت بلدة لم أعرفها من قبل كي أمارس مهنتي. قلت مستغربًا، والنّعاس يقاتلني: وبم؟ قال: "في الإغراء، والإغواء، والإفساد، والإضلال، فأنا الشّيطان". قلت: "ألا ترتدع. قال: "اتفاق ربّاني. طلبت منه فأجاز لي، وشرّط فقبلت الشّروط".
استرسل: "طالما سمعت عن البلدة أنّها وكر أعدائي فأردت المجازفة. وصرخت والله لأغوينّهم، ولكن حين مضيت أجوب شوارعها وجدت نساء يجبن الشّوارع وكلّ لها حجتها، ظننتهنّ كاسيات عاريات فإذا بهنّ أكثر من ذلك. كن يباهين الأخريات بسوآتهنّ، ويضحكن من واحدة كان بنطالها فضفاضًا، وكأنّها أجرمت بحقّ نفسها. كنّ يلطخن وجوههنّ وشفاههنّ بالألوان حتّى ظهرن مزيّنات مزخرفات". قلت: "حقيقة ما عهدت الرّياضة تمارس بهذه المواصفات، داحضا بذلك أشهر حجة لهنّ في الخروج". استحيت أن أقترب منهنّ؛ فعدلت إلى مسرب آخر، ففوجئت حين وجدت أخريات وآخرون يجتمعون في زاوية إلى ظل شجرة نبتت على قارعة الطّريق. كنّ يداعبنهم ويداعبونهنّ بحريّة تصل إلى الوقاحة.
وبين الفينة والأخرى تعلو ضحكاتهنّ وضحكاتهم غير مباليات ولا مبالين بمن حولهم. استغربت إذ مرّ من قومكم من تشهد لهم مظاهرهم بالصّلاح فلم يكترثوا بالجمع، وبالاختلاط، وبالمكان.
قلت: "ابتعد فلسن بحاجة إلى إغواء ولا إغراء، ولكن حفظت عنوانهنّ حتّى إن احتجتهنّ في المستقبل يعلمن أبنائي فنّ الفواحش الظاهرة والباطنة.
في مسار آخر رأيت شبابا كُثُر. هيئاتهم مختلفة، ومظاهرهم متنوعة، ويجتمعون في ساحة الضّلال والفساد. منهم الثمالى الذين لا يعون مسلك يسلكونه، ولا الكلمة التي ينطقون بها. فإن تكلم أحدهم وتراقصت شفتاه، فتلعثم، فغمّ حديثه عليهم ضحكوا مقهقهين حتّى توارت ضحكاتهم بشتيمة يشتمها.
بال أحدهم في سرواله، وجثا على التّراب؛ فبدا مقرفا مقزّزا.
بين البرهة والأخرى يتشاجرون ثمّ يهدأون ثمّ يصرخون ثم يغنّون ثم يطلقون صفارات سياراتهم، أو أصوات مسجلاتها بغناء أجنبي لا يفقهونه؛ ليس لأنّهم ثمالى ولكن لأنّ لغته أجنبيّة أبعد عنهم من الشّرف.
والغريب أنّ بعض الذاهبين إلى الصّلاة لمحوهم؛ فوقفوا واستطاعوا تشخيص جميعهم؛ ففلان ابن الحاج فلان، وسيّارة فلان المعتمر الصّيف الماضي، والطويل ابن المربي فلان، والمربوع ابن المهندس، والقصير ابن المحامي، وذو الشّعر الأشهب ابن ا الشّيخ، وذو الأقراط في أذنيه ابن النائب.
اختاروا مكانا موحّدا فكأنه حضانة تجمعهم حين لبث أهلوهم في المسجد. ابتعدت فلم أنتفع معهم بشيء؛ فأنا جئت للعمل، وليس للتعلم، وعملي الإفساد والإضلال، وليس تعلمه من جهابذة الضّلال هنا.
عدلت إلى مسار آخر وفكرت: "أين الملاذ؟
صرخ بداخلي صارخ: إلى المسجد. وصلت السّاحة التي تعج بسياراتهم، ومركباتهم الكهربائيّة، ودراجاتهم النّاريّة والهوائيّة. خلتهم كثر ولا أطيق الزّحام الشّديد. تابعت إليهم، لم أدخل لأنّي هبتهم، وهبت من أتوا إليه. لكن راقبتهم وبدأت أتفرسهم. أتعرّف إليهم. وجدت فيهم الكاذب الذي تعوّد ذلك. فهو يعرف الكذب ومكانته، ويعرف جرائمه من جراء ذلك، ولكن لا يعيش بدونه. يخلق لنفسه مبرّرات كثيرة وأعذار: كذب أبيض، مزاح جريء، كذب عن الكفار والفسقة.
وجدت فيهم المنافق الذي يظهر بما ليس فيه. فكم احتال على غيره، ونصب عليهم واستغلهم، وكم أضرّ بغيره وآذاهم، وهو بعيد بريء يقنع نفسه بصالح عمله.
ووجدت فيهم من يشكو منه جاره لما يسيء معاملته، فلا يأمن بوائقه، ولا يسلم من يده الباطشة، ولا من عينه الخائنة، ولا يسلم من لسانه الغادر. ويشكو منه أخوته وأخواته؛ فقد غرّهم بإيمانه؛ فقسى بتعامله معهم حتّى أكل ورثة أبيهم، فغيّر في قسمتها بينهم شرع الله وسنّة نبيّهم، وطوّعها لصالحه. ومنهم من يشكو معاملته صاحب الدّكان المجاور الذي يشتري منه طعام أولاده وزوجته. ومنهم من تطارده البنوك، وشركات القروض الماليّة، وغير ذلك وغير وغير.
وجدت فيهم شبابا أثاروا عجبي واستغرابي حتّى شككت في نفسي. لقد رأيتهم لتوّي في مكان آخر. مكان كنت أستحي أن أدخل إليه لما فيه من موبقات وفواحش، وها هم هنا يتسابقون للوقوف وراء الإمام، وكأنّهم من أولي النّهى. ذكرت حجّة الفسقة: "صلّ العشاء وافعل ما...".
قلت: "حتّى في مساجدهم لم أجد عملا؛ فعملي في الإضلال والإفساد.
سارعت في الانصراف، ولكن شدّني صارخ: "أين أولياء الله؟ أين من رحمهم ربّي؟ أين أعدائي؟ أين من أطاعوا ربّي حين حذرهم منّي، ومن زمرتي؟ فوقفت، ونظرت ورائي إلى عمق المسجد؛ فرأيت جماعة يتكاتفون ولهم هيبة؛ عرفت أنّهم هم فركضت موليّا عنهم، فليس لي عليهم سلطان، هكذا وعدت ربّي فالتزمت.
غادر المكان، على نيّة المغادرة إلى مكان آخر. وكان يقول: "ليس لي عندكم شيء، سأهجركم إلى غيركم. أنا مهاجر وتارككم. صحيح أنّي سبقتكم إلى المعصية من حيث الفترة الزّمنيّة لكن سبقتموني من حيث الكم والنّوعيّة. فعندكم من الفاحشة ما عجزت عنه مذ خلقت".
انتفضت، فجأة، على الصّخرة الصّغيرة التي حملتني، وتحرّرت من النّعاس الذي أثقل علي حتّى استسلمت، فتحت عيني وإذا بسيّارة تقف أمامي، وفيها من ينادي: "تعال. تعال. أوصلك إلى البيت".
فقمت فزعا. ركبت سيارته. نظرت إليه. تفوح منه رائحة نتنة فيها من الخمرة، والزّيت الأسود، والبراز الحديث.
لم يهمّني ذلك أبدا. هدفي الوصول إلى البيت. وصلت.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net