الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 10 / نوفمبر 06:01

الأسد إذ يُراوده نهجُ الإبادة متمتّعًا بالحصانة الروسية/ بقلم: عبد الوهاب بدرخان

كل العرب
نُشر: 13/05/16 08:18,  حُتلن: 08:19

عبد الوهاب بدرخان في مقاله:

مع احتدام الصراع والبحث المحموم عن نهايةٍ لأزمةٍ زادت تعقيداتها داخليًا وخارجيًا بات النظام يعتبر أن لديه الحلّ الذي يؤيده حليفاه الإيراني والروسي وهو الإبادة

ما انكشف في حلب ثم في قصف مخيم الكمونة ليس فقط نهج الإبادة ولا صعوبة التوصل إلى هدنة شاملة فحسب بل سقط مسلسل التضليل الأميركي - الروسي لتغطية خدعة «حل سياسي»

ليل الخميس - الجمعة (5 - 6 أيار - مايو) قصف طيران النظام السوري مخيم «غطاء الرحمة» للنازحين في بلدة الكمونة بريف إدلب. كان هؤلاء هربوا من جحيم حلب إلى ما ظنّوه ملاذًا آمنًا أو شبه آمن. قتل وأصيب أكثر من مئة منهم في جريمة حرب موصوفة، بعد ساعات على جلسةٍ لمجلس الأمن دان فيها معظم الأعضاء الهجمات الوحشية للنظام على حلب واعتبرتها الأمم المتحدة جريمة حرب نظرًا إلى تدمير منهجي للمستشفيات والبنية التحتية للمدينة. لكن روسيا منعت مجلس الأمن من إصدار بيان، مجرّد بيان تنديد، لئلا يشكّل ورقة أولى في ملف جرائم نظام بشار الأسد لمحاسبته بموجب القانون الدولي. وتأسيسًا على هذه «الحصانة» التي توفّرها روسيا أغار طيران الأسد على مخيّم النازحين. هذه المرّة طلب بان كي مون بوضوح أن يتخذ مجلس الأمن إجراءات لإحالة ملف سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية.

ما لبثت موسكو ودمشق أن لجأتا إلى التضليل لتمييع المسؤولية عن هذا القصف الإجرامي، بل اتهمتا «جبهة النصرة» بقتل نازحين في مخيم يقع في نطاق سيطرتها. شاركت واشنطن أيضًا في التضليل والتمييع، فكل ما استطاع ناطق الخارجية قوله أن «لا شيء يبرر الهجمات على المدنيين». هذا الموقف الأميركي المبالِغ في الخجل يريد مشاركة الأسد والروس في تعمية ما حصل فعلًا، لأن تأكيد مسؤولية الأسد يتطلّب من الأميركيين أن يحدّدوا الخطوة التالية وما إذا كانوا مستعدّين لخوض حملة تتبنّى طلب عقوبات دولية تتضمّن إحالة الأسد إلى المحكمة الجنائية. لكن هُزال الإرادة لدى أميركا - أوباما يجعلها تفضّل التهرّب من الحقيقة لتغطية العجز عن مواجهتها.

ما الذي يترتّب على انعدام المسؤولية روسيًا وأميركيًا؟ الجواب المفزع والمؤرق هو: تشريع الإبادة... ولا مبالغة في ذلك، فالإبادة كلمةً وتعريفًا ومنطقًا واقتناعًا تتكرّر حاليًا على ألسنة جميع الذين يُنطقهم نظام الأسد بأفكاره، من «المفتي» إيّاه إلى الذين تختارهم الأجهزة «ضيوفًا» للفضائيات. ومع احتدام الصراع والبحث المحموم عن نهايةٍ لأزمةٍ زادت تعقيداتها داخليًا وخارجيًا، بات النظام يعتبر أن لديه الحلّ الذي يؤيده حليفاه الإيراني والروسي، وهو الإبادة التي اعتمدها على نحو متقطّع منذ 2011 مقدّمًا نماذج مكرّرة من مجزرة حماة (1982) التي سبق للولايات المتحدة أن تغاضت عنها. قد يشكّل نموذجًا لعقلية الإبادة هذه ولتسويغها في الأذهان ذلك الاستعراض المشين الذي قدمه أكراد عفرين لجثث من قتلوهم، في واحدة من الوقائع الأكثر بشاعة في هذه الحرب، لكنها مرّت من دون التوقف عندها كما لو أن التظاهر بالجثث صار أمرًا عاديًا. بل إن تلك العقلية الإبادية استكملت غزوها عقول الأفراد كما يظهر في الـ «سيلفي» المقزّز الذي التقطته تلك الصحافية على خلفية من الدماء.

في عام 1994، أبادت مجموعات من غالبية الهوتو في رواندا، وفي ما يقرب مئة يوم، نحو ثمانمئة ألف من أقلية التوتسي، واستهلك «المجتمع الدولي» شهورًا عدة طويلة قبل أن يحدّد ردّه وينشئ محكمة خاصة لمعاقبة الجناة الذين تمتعوا بتواطؤ من السلطة القائمة آنذاك. صارت تلك الجرائم «عقدة ذنب» كبرى لمعظم قادة تلك الحقبة وديبلوماسييها في أفريقيا وخارجها، وإلى وقت قريب كانت تعتبر خاتمة مذابح القرن العشرين الذي شهد حربين عالميتين أودتا بحوالى سبعين مليون شخص، إضافة إلى ملايين أخرى من الضحايا في حروب إقليمية ونزاعات أهلية. وقد عُزي الفشل في وقف الجريمة الرواندية إلى أسباب عدة، منها القصور في إدراك حقائقها وشحّ المعلومات الموثّقة عن وقائعها والتأخّر في تقدير حجمها وهولها، خصوصًا إلى ضعف الإرادة الدولية ودوافعها للتحرك. بالتزامن مع الحدث الرواندي كانت تدور حرب إبادة في الشيشان، لكن الولايات المتحدة قدّمت مصالحها على فضح الجريمة الروسية، وفضّلت التضحية بذلك البلد وببضعة بلدان أخرى بعده، كما تفعل الآن في سورية، بهدف إشباع مطامع روسيا ولن تفلح.

بالنسبة إلى سورية، حيث تدور المذبحة بما يشبه بثًّا مباشرًا على مدى خمسة أعوام وشهرين، يمكن الحديث فقط عن إرادة دولية معدومة قلبت معاييرها ومفاهيمها بل هيّأت نفسها للتكيّف مع نهج الإبادة البطيئة والتهيّؤ لقبوله. لا أحد يستطيع التحجّج بأنه لم يعرف ما حصل ويحصل في سورية، وما جرى فعلًا كان طمس عشرات التقارير وتجاهل المعلومات والتوقف عن عدّ الضحايا للاكتفاء بربع مليونٍ كحصيلة «مقبولة». لكن دراسة لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (أسكوا) مع جامعة سانت أندروز البريطانية كانت صادمة منذ سطورها الأولى: إذ قدّرت أن 2,3 مليون سوري قتلوا أو جُرحوا في الحرب، وأن 12 مليونًا تعرّضوا للتهجير، فيما فقد البلد نحو 260 بليون دولار من ناتجه المحلي، ليصبح 83,4 في المئة من الشعب تحت خط الفقر. وفي نهاية 2015 كان هناك 13,5 مليون شخص (بينهم ستة ملايين طفل) في حاجة إلى مساعدة إنسانية، وبينهم أكثر من أربعة ملايين يعيشون في دمشق وريفها ومحافظة حلب، وهذه هي المناطق التي يتطلع النظام إلى الإجهاز عليها لتحقيق ما سمّاه الأسد «النصر النهائي» في برقية شكر وجّهها إلى فلاديمير بوتين.

جميع داعمي الأسد ونظامه، العلنيون منهم وغير العلنيين، خصوصًا روسيا وإيران والولايات المتحدة، كانوا شركاءه في كل ما ارتكب من مجازر وسيبقون وراءه في اعتزامه الإقدام على الإبادة كـ «حل نهائي»، وفقًا للمصطلح النازي، ويريدون له «النصر النهائي» هذا. فهو لم يلمس في أي لحظة أن الدولتين الكبريين مختلفتان فعلًا في شأن بقائه، ذاك أن أميركا غير الراغبة في التدخل عارضت علنًا تسليح المعارضة بما يمكّنها من الدفاع عن مواقعها، وأميركا هذه تغاضت عن التدخل الإيراني حين كان يقتصر على «خبراء» وميليشيات ولا تزال تتغاضى عنه بعدما أصبحت طهران تعلن رسميًا إرسال قوات خاصة وضباطًا وجنودًا إلى سورية (قتل منهم أخيرًا أكثر من ثلاثين شخصًا). أما روسيا فلم تخذل الأسد في أي مرحلة وعندما دهمه خطر حقيقي صار تدخلها مباشرًا وباتت تضع هيبتها على محك إنقاذه وفرض الحل السياسي الذي يناسبه. وفوق ذلك أخضعت تفاهماتها السرّية مع أميركا لمصلحته.

ما انكشف في حلب ثم في قصف مخيم الكمونة ليس فقط نهج الإبادة، ولا صعوبة التوصل إلى هدنة شاملة فحسب، بل سقط مسلسل التضليل الأميركي - الروسي لتغطية خدعة «حل سياسي» يرمي أساسًا إلى إعادة إخضاع الشعب السوري لمجرم الحرب وزمرته من القتلة. ولعل هذا الاقتراب من منطق الإبادة هذا هو ما دفع الفرنسيين والبريطانيين والألمان إلى قرع ناقوس الخطر، كما سبق أن فعل العرب والأتراك. فهم يساندون التحرك الأميركي ويتفهّمون الكثير من جوانبه رغم غموضها والتباسها، إلا أنهم يرفضون انجرار الأميركيين وراء النهج الروسي - الإيراني ووقوعهم في تبرير جرائم نظام الأسد والسكوت عنها. ويرى الأوروبيون أن ثمة فارقًا شاسعًا بين استخدام التفاهم الأميركي - الروسي لحضّ الأسد والمعارضة معًا على «حل سياسي» يتطلّب التزامات وتنازلات، وبين تسخير ذلك «التفاهم» في إرضاء الإيرانيين وحفز الأسد على الاستشراس في الحسم العسكري وتحصينه من أي مساءلة ومحاسبة. والأهم أن الأوروبيين الذين أرادوا تخفيف موجات اللاجئين فسايروا حلًّا سياسيًا، ولو مجحفًا للمعارضة، اكتشفوا أن الأميركيين والروس بالغوا في الكذب بالنسبة إلى «صمود الهدنة» أو إلى صلاحية العملية السياسية المقترحة، وبالتالي فإن مشكلة اللاجئين مرشحة للضغط مجددًا على أوروبا. والحاصل الآن أن صعوبة إقامة هدنة وضمان احترامها من النظام والإيرانيين باتت بصعوبة إعادة المعارضة إلى مفاوضات جنيف، لأن اللعبة انكشفت تمامًا فحتى التسوية المجحفة لا يريدها النظام، لذا فهو يتعمّد ضرب الهدنة لضرب المفاوضات. هذا ما دفع الأوروبيين إلى المطالبة بـ «مبادرة جديدة» لأن الصيغة التي انبثقت من لقاءات فيينا، ثم أصبحت القرار 2254 استطاع الروس والأسد والإيرانيون إفسادها وحتى إسقاطها.

نقلًا عن الحياة


المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة