عبدالوهاب بدرخان في مقاله:
قد تكون واشنطن خشيت الابتزاز الروسي في شأن كشف مضمون الاتفاق، ولعلها شعرت بأنه سيكون بمثابة ضبطها متلبّسة بتنازلات مكتوبة وموّقعة
صحيح أن الهدنة المفترضة رُبطت باستئناف الحل السياسي، إلا أنها لم تُربط بالحفاظ على شيء من التوازن الميداني، بل تُرك عرضة لكل الاحتمالات
أكدت البلبلة الحاصلة أن الاتفاق الأميركي - الروسي لم ينهِ الاستعصاء الدولي، أو لعله زاده تعقيدًا، خصوصًا عندما بلغ الطرفان استحقاق «العمليات المشتركة» ضد الإرهاب من دون أن يُنضجا ظروفًا مناسبة للتعاون
قبل أيام، مسّت الحاجة إلى مَن يفاوض على «هدنة» بين موسكو وواشنطن، وكانت أروقة مجلس الأمن مسرحًا لسجالات انفعالية بين المندوبَين الأميركي والروسي بمقدار ما كان مسرح العمليات السوري يشير إلى أن الاتفاق الأخير بين الدولتَين يترنّح، فهو لم يأتِ متأخّرًا فحسب بل جاء متسرّعًا أيضًا، وتبيّن أنه ما كان ليُنجز لولا استجابة أميركية للشروط الروسية. وقد اتضح ذلك في تهافت موسكو على حماية مكسبها، ملحّةً على التعجيل بتفعيل الاتفاق قبل انقضاء «أسبوع الاختبار» متجاوزةً انتهاكات نظام بشار الأسد للهدنة، وعلى السعي الى تحصين هذا المكسب بجعله قرارًا صادرًا عن مجلس الأمن، ولو تطلّب الأمر كشف بنود الاتفاق حتى السرّية منها.
كان الرئيس الروسي أعلن بنفسه أنه يؤيد نشر مضمون الاتفاق، ولم يفعل ذلك من قبيل الشفافية، بل لإخراج انتصاره الديبلوماسي الى العلن، ولإحراج الإدارة الأميركية بعدما استنتج أن الخلاف بين جناحَيها قد يطيح مكسبه. وقد أفضى الجدل الإعلامي على نشر أو عدم نشر مضمون الاتفاق، معطوفًا على تعارض مواقف الخارجية والبنتاغون والـ «سي آي أي»، الى اقتناع عام بأن إدارة اوباما قدّمت تنازلات عسكرية وسياسية تتعارض مع مواقفها المعلنة ولا تحبّذ الكشف عنها، حتى لو كانت فعلت ذلك على سبيل المناورة، أو متوقّعة أن يفشل الروس في التزام تعهداتهم بالنسبة الى الهدنة والسلوك المفترض من جانب النظام وحلفائه الإيرانيين.
لكن هذا الجدل كان مرشّحًا للانتقال الى مجلس الأمن، لو عُرض عليه الاتفاق بكل تفاصيله، وكان سيفتح بالضرورة نقاشًا في غير مصلحة الطرفَين سواء للمطالبة بإيضاحات وتعديلات، أو لشرح بعض المفاهيم ومدى تطابقها مع ميثاق الأمم المتحدة. إذًا كانت موسكو تعلم أن ثمة مجازفة في مطالبتها بتدويل الاتفاق لكنها وجدت الفرصة مناسبة لإرباك إدارة اوباما وتسجيل النقاط ضدّها. وقد تجلّى ذلك أيضًا في استدعاء روسيا مجلس الأمن الى جلسة طارئة - لإدانة أميركا؟ - بعد مقتل جنود للنظام السوري في قصفٍ على دير الزور، إذ أظهر فارقًا شاسعًا مع ردود الفعل الأميركية الباهتة على القصف التدميري المنهجي لحلب بقصد تهجير مدنييها ومقاتليها، وهو ما لم تقل موسكو يومًا أنه «خطأ» ولم تعتذر عنه بل إنها مصمّمة على المضي به، وبتغطيةٍ بات يوفّرها الاتفاق مع واشنطن.
هل تقصّدت الطائرات الأميركية المغيرة على موقع لتنظيم «داعش» في دير الزور قصف موقع معروف وليس مستحدثًا لقوات الأسد، وهل أرادت بذلك الردّ على استفزازات فلاديمير بوتين لإبلاغه أن خياراتها لا تقتصر فقط على التلويح بإلغاء الاتفاق، وهل ذهبت موسكو الى مجلس الأمن لأنها أدركت أن القصف الأول من نوعه منذ بدء الحرب الأميركية على «داعش» انما كان رسالة موجّهة اليها وقد تكون أودَت بجنود روس؟... أي خبير عسكري يدقق في الخريطة سيقول أن الضربة كانت متعمّدة لأن مواقع «الدواعش» والأسديين ليست متلاصقة الى حدّ يسمح بـ «الخطأ». وكانت المفارقة أن تعليقات عدّة اعتبرت أنها المرّة الأولى والوحيدة التي يكون فيها القصف الأميركي الخاطئ مصيبًا، لأن «داعش» ونظام الأسد هما واحدٌ أولًا وأخيرًا. ولو أتيح لمجلس الأمن أن يدرس هذه الواقعة في إطار «الحرب على الإرهاب» لما استجاب للإدانة التي أرادتها موسكو. وهكذا أمكن الأخيرة أن تتعرّف الى ما يعنيه تعطيل مجلس الأمن عندما احتاجت الى تفعيله. والسؤال المهم هنا أن جرائم الحرب التي ترتكبها روسيا منذ تدخّلها هل تكفي «شرعية الأسد» لتغطيتها وهل يمكن أن تبقى مستثناة من المساءلة الدولية؟
في أي حال، أكدت البلبلة الحاصلة أن الاتفاق الأميركي - الروسي لم ينهِ الاستعصاء الدولي، أو لعله زاده تعقيدًا، خصوصًا عندما بلغ الطرفان استحقاق «العمليات المشتركة» ضد الإرهاب من دون أن يُنضجا ظروفًا مناسبة للتعاون. وبطبيعة الحال، لم تكن اعتراضات البنتاغون والـ «سي آي أي» معنيةً بالمعارضة السورية أو بقضية الشعب السوري، بل بالمبدأ العام الذي بُنيت عليه مشاركتهما المفترضة مع الروس بالخطط والمعلومات والخرائط، وكلّها جُمعت أو أعدّت بتعاون عسكري واستخباري داخل حلف الاطلسي أو مع حلفاء وأصدقاء من خارج هذا الحلف. ثم إن العمل مع الروس في سورية، رغم رفضهم الانضمام الى التحالف الدولي ضد الإرهاب، يمثّل نقلة استراتيجية نوعية من دون أن تكون هناك استراتيجية متوازنة ومتّفق عليها، ورغم تحديد مجالها في الزمان والمكان فإن فلاديمير بوتين سيحاجج لاحقًا بأن لا شيء يبرر عدم تطبيقها في اوكرانيا على سبيل المثل.
لكن، حتى بالنسبة الى الشأن السوري، قد تكون منطلقات الخارجية الأميركية في تنازلاتها لروسيا مختلفة وأقل تدقيقًا بالتفاصيل من ملاحظات العسكريين والاستخباريين الذين يعملون على تماسٍ مباشر مع الأرض ومع نظراء لهم في غرفتي الـ «موك» والـ «موم». فأي اتفاق مهما كان صارمًا، سيأخذه الروس على أنه ترخيص أميركي لسحق المعارضة، معتدلةً أو متطرّفة، وسيطبّقونه على طريقتهم وبمنطقهم «الشيشاني» المعروف. وإذا كانت واشنطن غضّت النظر بين عامَي 1994 و1996 فيما كانت روسيا ترتكب جريمتها في الشيشان، فقد ساعدها آنذاك نسبيًا أن وسائل الإعلام الحديث لم تكن في ذروة تطوّرها كما هي اليوم، إلا أن التفريط بالمعارضة السورية وتعريضها لمذبحة على أيدي الروس والأسديين والايرانيين لن يكونا مجرد غضّ نظر بل مشاركة فعلية وعلنية في الجريمة.
قد تكون واشنطن خشيت الابتزاز الروسي في شأن كشف مضمون الاتفاق، ولعلها شعرت بأنه سيكون بمثابة ضبطها متلبّسة بتنازلات مكتوبة وموّقعة. وطالما أن الأمر متروك للتكهّن، فإن التراشق بتُهم عدم التزام التعهّدات، ومراجعة النهج الاوبامي السلبي طوال الأزمة، واستقراء الخطّ البياني للتغيير الذي طرأ على المواقف الأميركية منذ التدخّل الروسي، يمكن أن ترسم خريطة تنازلات جون كيري. وهي تظهر ببساطة أن واشنطن رضخت لميزان القوى على الأرض، بعدما ساهمت طوال الأعوام الخمسة في هندسة اختلاله لمصلحة نظام الأسد، وبعدما تغاضت عن تدخّل ايران وميليشياتها، وأخيرًا بعدما تركت الروس يفرضون أمرًا واقعًا لا يمكن العمل إلا بمنطقه «الشيشاني». لم يصدّق أحد أن الهدنة «التجريبية» التي أقرّها اتفاق الدولتَين تضمن إقلاع الروس عن ذلك المنطق، بل إنهم أبدوا استعجالًا لاستئناف القصف حتى قبل اختبار الهدنة التي لم تصمد أصلًا سوى ساعات قليلة.
لم يحدّد كيري هدفًا لتنازلاته سوى «خفض مستوى العنف»، أما الأسد فترجمها، مكرّرًا خلال أقلّ من شهرين تصميمه - أي تصميم الروس والإيرانيين - على استعادة كل مناطق سورية... استعادتها، طبعًا، خاليةً من أهلها. أما «تنازلات كيري» فيمكن إيجادها في كل العناوين، سواء في الترتيبات العسكرية، أو في التفاهمات السياسية.
وليس واضحًا أبدًا أنه استطاع في المقابل انتزاع أي تنازل روسي، فوقف طيران النظام وبراميله الذي قدّم على أنه مكسب مُنح استثناءً في الغوطة، والفصل بين فصائل المعارضة و «جبهة فتح الشام» («النصرة» سابقًا) لم يكن واقعيًا طالما أن الاتفاق «لم يُبنَ أساسًا على الثقة بالروس» كما ردّد الأميركيون، وبالتالي حتى لو وُجدت خرائط واضحة ومفصّلة لا يمكن ضبط الروس الذين يصنفون كل من ليس مع الأسد بأنه «إرهابي»، وفي حال توصّلت الجهود الراهنة للفصائل الى صيغة لتوحيد صفوفها فإن التمييز في ما بينها سيغدو استحالة.
صحيح أن الهدنة المفترضة رُبطت باستئناف الحل السياسي، إلا أنها لم تُربط بالحفاظ على شيء من التوازن الميداني، بل تُرك عرضة لكل الاحتمالات. لكن «تنازلات كيري» السياسية، وفقًا للمتداول، لم تكتفِ ببقاء الأسد وبتمييع «الانتقال السياسي» بل تجاوزتهما لتكريس الاحتلالَين الروسي والإيراني، وهذا كافٍ وحده لتقويض أي حل سياسي وللحؤول دون عودة المهجّرين وإعادة الإعمار، فلا الروس يوحون بالثقة لاستعادة الاستقرار ولا الإيرانيون مستعدّون للتخلي عن خطط التغيير الديموغرافي لتوطيد نفوذهم.
نقلا عن الحياة
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net