أردت أن أكتب لا لأكتب، بل لأدشّن صفحتي، بل لأكتب كما يكتبون
عتزّ إحداهنّ بصورتها ومنظرها، وحين كتبت التّعليقات كتب: منورة... يسعدك
عجباً، من عصر تطوّر فيه كلّ شيء، عصر فيه الشّبكة السّحريّة المتوفّرة للأغنياء والفقراء، للرّجال والنّساء، للكبار والصّغار. فيها ما هبّ ودبّ.
وعجبًا أنّهم كلهم يغترفون ما يريدون، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرّ.
والأعجب والأغرب أنّ هذه الشّبكة حوّلت بسحرها العالم إلى قرية، بل إلى أسرة واحدة. يعرف الأب عن الأم، والأمّ عن الابنة، والابنة عن الأب، والأب عن الابن والجار عن زوجة أخيه. باختصار الكلّ يعرف عن الكلّ.
قد يسمع السّامع عجبًا، ويرى الرّائي عجبًا، ولكنّ العجب أن تعجب من ذلك. إذ لا عجب لأنّهم يفتتحون صفحة واحدة لكلّ منهم، يكتب فيها كلّ خصوصيّاته. فلا يُبقي ولا يذر، يطّلع عليها القاصي والدّاني، الطّاهر إعلاميّا والنّجس، الكبير والصّغير والحقير.
يُحدّث أحدهم: فتحتُ صفحتي فانهالت عليّ إشعارات المباركة، والتّهنئة، والتّشجيع حتّى شعرت وكأنّي مرشّح لمنصب راقٍ، واستطعم بالنّجاح بتأثير أصواتهم، فكلّ صوت كنز يزيد من النّسبة الموصلة للنّجاح.
أردت أن أكتب لا لأكتب، بل لأدشّن صفحتي، بل لأكتب كما يكتبون. لم أعرف بماذا أبدأ، وماذا أكتب. أأكتب عن نفسي وماذا؟
أكتب صفات شخصيّة؟ أمور خصوصيّة؟ مشاعر وأحاسيس خاصّة. حكم، عبر، أمثال، أخبار، قصص، روايات، ماذا؟ ماذا؟ ماذا؟
قلت في نفسي: "التّجربة التّجربة، وسؤال المجرّب حكمة. قمت بجولة استطلاعيّة لصفحات الزّملاء لأعرف ماذا يكتبون. وهذه عيّنة من الحصيلة التي جمعت.
بعضهم نشر صورته بأزهى حلة حتّى يتساءل المشاهد عن الوزن النّوعي للبدلة وما حوت، ويبدأ بتخمين الأهداف والغايات من النّشر.
بعضهم نشر صورته واقفًا، معتزًّا، واثقًا، مبتسمًا.
بعضهم مع زوجته، وبعضهم مع قطّته، وبعضهم يتقمّل خلف أتانه. فماذا أنشر أنا، وليس لي في الطّبخة شيء؟
بعضهنّ نشرن صورهنّ كمعرض للحليّ والذّهب، أو كورقة رسام فيها أعجب الألوان.
تعتزّ إحداهنّ بصورتها ومنظرها، وحين كتبت التّعليقات كتب: منورة... يسعدك.
إحداهنّ مع زوجها، وأخرى مع بغلها.
بعضهنّ طليقات وبعضهنّ يستظللن بفرع شجرة، وبعضهنّ يغصن في بركة غير مبقية للزّوج إلا القليل، وإن كان من يراها يتمنّى شيئًا تمنيت العمى.
وفي غير الصّور كتبوا ترّهات وخزعبلات، لا واقع فيها ولا خيال. كلمات فصحى، مثلا، لكن ترتيبها يفقدها المعنى الصّويب. إعوجاجها وعدم الدّقة فيها، والتّرتيب يخلق وهمًا أنّها شيء، أنّها مقصودة. فلا وربّي لا هذا ولا ذاك.
بعضهم خطّ كلمات متفرّقة، بعضهم رتّبها وسمّاها شعرًا . وأنا ماذا أكتب، وليس لي في الشّعر شيء.
ولا غرابة أنّ من بين التّعليقات الكثيرة من كتبوا: أبدعت... أحسنت... أجدت. ووالله سألت نفسي باستغراب: بماذا أبدع، أو أحسن؟، أو أجاد؟ وإن أحسن بترّهاته فما أحسنت هضمها، وما أحسنت المحاباة ولا الرّياء. وإن أجاد جنونه فما أجدت الوقوف إلى جانبه.
أم أنّ الكلمات لا مضمون لها، ولا معنى، وهي خالية جوفاء. أم أنّها رموز تشهد على القراءة والاطلاع على الصفحة، وما كتب فيها.
وفي مجال آخر كتبوا كلّ حركة تحرّكوها، وكلّ عمليّة قاموا بها، ولم يبق إلا أسرار غرف النّوم. واعتقد أنّه لم يكتبها أحد لأنّها معروفة ومفهومة ضمنًا.
فبعضهم كتب عن جولاته في البلدان، وتجواله بين أحضان الطّبيعة، ونشر صوره فيها إثباتًا لصحّة أقواله. أنا في الجولان... أنا في المطار... أنا في روما. فماذا أكتب أنا، وأنا مستلقٍ خلف زوجتي، ولا يُرى منّي إلا الأماكن المرتفعة.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net