فهد سليمان الشقيران:
لا تتعلق المسألة بالتحليل الاعتيادي لمعنى العنف، ولا التعليل الاجتماعي، أو النفسي، فضلاً عن السياسي، بل عن العلاقة بين العنف وفكرته، بين الإرهابي ومقدّسه
برغم مشاهدة أحداث عنف كبيرة بشرق آسيا، ومذابح جماعية لا تعقل في أفريقيا، وحروب أهلية بالشرق الأوسط، ومجازر استثنائية في أوروبا فإن إرهاب الحركات الراديكالية يعتبر أكثر شراسة وذلك لمخاتلته
برغم الحديث عن الأخطار المناخية، وشحّ الغذاء، وسيل التنبؤات حول جدب الأرض، وغور المياه، غير أن الشبح الأكبر بلا منازع هو «العنف» بكل أشكاله، الإرهابي منه، والإجرامي، والسياسي. وبات ترف أي مجتمعٍ يقاس بمستوى أمنه أولاً؛ ومن ثمّ تأتي بقية المعايير الأخرى. وبرغم مشاهدة أحداث عنف كبيرة بشرق آسيا، ومذابح جماعية لا تعقل في أفريقيا، وحروب أهلية بالشرق الأوسط، ومجازر استثنائية في أوروبا، وغالبها عنف عرقي وسياسي، فإن إرهاب الحركات الراديكالية الذي طبع أواخر القرن العشرين وأبحر سابحاً بالدماء منذ بدء الألفية الجديدة وإلى اليوم يعتبر أكثر شراسة وذلك لمخاتلته، ولطريقة حركته، وتجدد خططه، فهو ليس عنفاً إجرامياً يمكن حصره ولجمه، بل عنف آيديولوجي ليس له هدف مادي دنيوي محدد وإنما يغدو القتل هدفاً والانتحار غاية، حتى وإن رفعت شعارات الدولة الإسلامية، أو إقامة نماذج متخيّلة من خلافة أو مجتمعٍ حقّ طاهر يحكم الشريعة.
لا تتعلق المسألة بالتحليل الاعتيادي لمعنى العنف، ولا التعليل الاجتماعي، أو النفسي، فضلاً عن السياسي، بل عن العلاقة بين العنف وفكرته، بين الإرهابي ومقدّسه، وذلك انطلاقاً من أصل التضحية، تلك كانت ميزة مقاربة رينيه جيرار في كتابه «العنف والمقدس» وهو بحث أنثربولوجي يسبر أصول العنف والتضحية ليس انطلاقاً من التأويلات للنصوص المؤسسة بل والمتخلّقة برحم الثقافات، وهو يبحث في العلاقات بين التضحية والمقدس والعنف. ضمن هذا المجال كتب منوبي غباشي ورقة مهمة حول «العنف المقدس» فيها اعتبر أن «الأضحية، القربان الدامي، مَثّل النموذج الأساسي للعنف المقدّس. ولئن كان في الأصل ظاهرة أنثروبولوجية قديمة ارتبطت بالوعي الجماعي البسيط (الوثنيّات القديمة وعقائد التأليه الطبيعية الإحيائية والطوطمية) فإنها تحوّلت فيما بعد إلى ظاهرة اجتماعية سياسية في المجتمعات المركّبة والمتطوّرة والتي لم تفقد ظاهرة التقديس»، ثم ينقل عن روجي كايوا، في كتابه «الإنسان والمقدّس» أن «العنف المقدّس» هو العنف «الذي يتمّ التشريع له انطلاقاً من مرجعية دينية أو أسطورية أو آيديولوجية. ولكنّ العنف المقدّس لا يأخذ ملامحه من النصوص التأسيسية فقط، بل يتجسّد في أكثر المظاهر قسوة وفظاعة، في الحرب وفي التعذيب الذي يمارس ضدّ أتباع دين مغاير أو ضدّ معتنقي عقيدة أو مذهب مخالف».
بينما الأطروحة الأكثر رصداً لعلاقات العنف والمجتمع والإرهاب، فهي لأستاذ الفلسفة بجامعة «ريتسوميكان» بول دوموشيل وقد عنونها بـ«التضحية غير المجدية - بحث في العنف السياسي». الكتاب أهداه المؤلف لرينيه جيرار، وقد كان طيف أستاذه ماثلاً في فصول الكتاب، به حلل معنى العنف حتى لدى آكلي لحوم البشر كما في عَوْده المتكرر لطرح آلان كوربن في كتابه «قرية آكلي لحوم البشر» والذي يحلل فيه حادثة عنف جماعي حدثت في إقليم دوردوني خلال حرب عام 1870. ومن ثمّ يدخل على خطّ مفهومي مهم نحتتْه حنة أرندت وهو «تفاهة الشر» ويشرّحه باعتباره «يعبر عن اندهاش أمام ما يمكن أن نسميه بـ(عدم تقديس الجلاد) ذلك أن ضخامة الجريمة وبشاعتها لا تمنحان أي عظمة لذاك الذي اقترفها، وأنهما لا تحيطانه بهالة مقدسة، ولا تمنحانه أي صفة غير عادية شريرة، تتناسب مع أفعاله، إزاء الإنكار الذي تظهره نفسيته وأساليبه. إن تفاهة الشر تميل بالجلاد إلى مستوى ضحاياه المجهولين والذين لا وجه لهم، إنهم أعداد لا تحصى من أناسٍ غير معروفين لم يكن ثمة ما يدل على المصير الرهيب المرصود لهم». لقد أبدى دومشيل وأعاد وقلّب مفاهيم كبرى حول العنف منذ أرندت وحتى جيرار، ولكنه وبطريقة رائعة يضع وصفاً للعنف خاصاً به «إن العنف بمعنى ما، يصل بسرعة مفرطة ليستطيع الاندماج مع النزاعات، والتنافسات التي تحرك الأفراد، لأجل ذلك، فإنه يصدّ بقدر ما هو يجذب، ويثير القلق بقدر ما هو يسحر المشاعر، ولكنه يقترب من أفرادٍ فاعلين ليس عندهم أي التزام في الانخراط فيه... لا فلح العنف بسهولة في أن يعدي بعدواه أولئك الذين هم مشغولون إلى حدٍ كبير بنزاعاتهم الخاصة، وبمنافساتهم الشخصية الخاصة بهم».
كل تلك المفاهيم هي بمثابة مشارط تحاول الوصول إلى جذر العنف، وذلك من خلال المسح الأنثربولوجي للثقافات، فالعنف جزء من تاريخ البشرية، وهو أساس بتحولاتها الكبرى ومنعطفاتها التاريخية، وعليه فإن الإرهاب بوصفه التجلي الأبرز لظاهرة العنف يجعل مستقبل العلاقات بين الدول والثقافات والشعوب على المحك، بل حتى مسائل التواصل والسياحة والتعلم ستشوبها تحدياتٍ غير مسبوقة، وقد يكون السفر في المستقبل القريب صعباً، مما يعزز من فرضيات الصراع بدلاً من التفاهم والتواصل، ولن يكون زمننا بعد الإرهاب كما هو قبله، قد تنجح الدول بضرب كيانات إرهابية وإنهائها، لكن نزع النزوة العنفية يحتاج إلى صيغ حضارية وتحولات فكرية تعجز عنها معظم دول العالم باستثناء تجارب غربية محددة، وواجب الدول احتكار العنف، ومنع الأفراد من تقييم خيرية العنف، فالدولة وحدها من يمتلك حق الوصف، وكل نزعات العنف تعبر عن خلل بالعقد الاجتماعي، بسبب عدم تنظيم «التفاوتات» بين الناس، ضمن صالح الأقل حظاً بالمجتمع كما يعبر جون راولز، كل ذلك قد يؤجل نشوب الصراعات الكبرى، ويحد من لهب النار... نار الإرهاب الحارقة.
نقلاً عن "الشرق الأوسط"
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net