د.اسعد غنايم:
لا يقدر على ما خطه نهاد بقاعي بقلمه الا من اجتمعت برأسه الاسئلة ومحاولات الاجابة، من تابع وقرأ وكتب، واهتم بالمحلي والقطري والوطني والقومي والعالمي في اَن واحد
اننا امام عمل ثقافي منحاز للإنسانية ولشعبنا وهمومه... اننا امام نجم مثقف ساطع في سماء وطننا يهزنا عندما نتصفح الكتاب لكي يفهمنا بان شعبنا بخير... وإن الحق لا يموت
ما حصل في وطنهم في زمن اوسلو والسلطة الوطنية والربيع العربي وازمنة القمع وانظمة التسلط والعنجهية العربية والاسرائيلية... والتي سوف تكون قد غابت كلها من واقع المنطقة بفضل نضالات ابناء فلسطين واترابهم العرب وديموقراطي العالم
لا يخلد التاريخ الا من كتبه، أو صوّره أو رسمه... وبهذا فإنه هيأ لمن لم يولد بعد سبل تصور الواقع، او اجزاء منه، او على الاقل هيأ لنا سبيلا الى اختصار الواقع المركب بأكثر الطرق كثافة... وبينما يحتاج الكاتب والمؤرخ والصحفي الى صفحات او اكثر لأفهامنا الصورة، ويحتاج المصور الى عشرات او مئات الصور... الا أن رسام الكاريكاتير لا يحتاج سوى الى ورقة وقلم رصاص... وخصوصا اذا امتلك الناصية وعقد العزم على التزام الحقيقة بغير مراءاة، وهذا بالضبط ما تعبر عنه حالة نهاد بقاعي الذي امتلك ناصية الفكرة، والتصور، والمعرفة، والالتزام بقضايا شعبه والتعبير عنها... وكل هذا في اَن واحد.
ربع قرن من التاريخ الفلسطيني –مع بعض الولوج الى قضايا عربية وعالمية وحتى اسرائيلية بين الفينة والاخرى- يجمع نهاد بقاعي في صفحات هذا الكتاب، وعندما سوف يجلس احفادنا مع ابنائهم، بعد نصف قرن او اكثر ليشرحوا لهم ما حصل زمن اجدادهم في فلسطين وما حولها، فانهم لن يجدوا افضل من تراث نهاد بقاعي الكاريكاتيري وبعض تعليقاته، والتي سوف تجبرهم للعودة الى الكتب والافلام المصورة وصحف عصرنا ليفهموا اكثر وليشرحوا اكثر عمقا وليفهموا جيل قراءة الرسائل القصيرة والكلمات المتناثرة والجمل المتقاطعة والتي تكتب على صفحات اجهزة الديجتال، ما حصل في وطنهم في زمن اوسلو والسلطة الوطنية والربيع العربي وازمنة القمع وانظمة التسلط والعنجهية العربية والاسرائيلية... والتي سوف تكون قد غابت كلها من واقع المنطقة بفضل نضالات ابناء فلسطين واترابهم العرب وديموقراطي العالم.
ولا يقدر على ما خطه نهاد بقاعي بقلمه الا من اجتمعت برأسه الاسئلة ومحاولات الاجابة، من تابع وقرأ وكتب، واهتم بالمحلي والقطري والوطني والقومي والعالمي في اَن واحد....انه مثقف قلت امثاله وندرت، لكن وجوده هنا، ومن خلال صفحات الكتاب الذي يجمع ثلة من اعماله في ربع قرن، ليؤكد على أن شعبنا بخير، وأن ذاكرة شعبنا لن تموت ابدا... بل ستبقى حية بإرث نهاد بقاعي وامثاله من رواد تمرير الحقيقة لنا، ولمن بعدنا، باقل ما امكن من الوقت لكونه استطاع ان يركز الفكرة المركبة في رسمة كاريكاتير..
هذه المقدمة تقودني الى فهم هذا العمل الجميل في السياق الاوسع، في سؤال الثقافة والمثقفين. فأنا اعرف نهاد بقاعي منذ سنوات طويلة، ابن بلدي، وناشط سياسي محلي وقطري، رئيس لجنة الطلاب العرب في الجامعة العبرية من قبل الجبهة سابقا، وعامل في بديل – بديل –المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، ومساهم مركزي في رفع قضايا شعبه، من خلال ابداعاته التي ينشر جزءا منها في كتابه هذا، ونشرت سابقا في الصحف والمجلات والمواقع.
فنهاد بقاعي، الفلاح واللاجئ والانسان والفلسطيني والاممي هو كما سبق وقال المفكر الفلسطيني، ادوارد سعيد، مثقف يقف بجرأة شاهدا على عصره وبقوة الفكرة والارادة على قولها، مهما كانت المخاطر... المثقف باعتباره شخصا متفردا قادرا على ان يقول كلمة الحق في مواجهة السلطة، ... شجاع الى درجة لا توصف، لا يرى ان ثمة سلطة دنيوية اكبر واقوى من ان ينتقدها ويوجه اللوم عليها...... انه يمثل، كما قال عالم الاجتماع ادوارد شيلز "يوجد في كل مجتمع...بعض الاشخاص يتمتعون بحساسية فذة، وبقدرة خاصة على تأمل ما حولهم وما يتحكم بمجتمعاتهم... هنالك اقلية يتمتعون بمقدرة تفوق سواهم من عموم البشر تحثهم وتجبرهم على التساؤل والبحث".
وهنا لا بد أن اضيف بأن المثقف، هو ليس من يقرأ ولا من يتكلم كثيرا في الاجتماعات وليس من يكتب في الصحف والمجلات، انه برأيي ذلك الملم الذي يعصر ما بدماغه لخدمة قضايا البشرية والتحديات التي تواجه شعبه.... لكي يقول مقولة مفيدة... قد تكون يمينية او يساريةـ رجعية او تقدمية، دينية او ملحدة... لكنها بالأساس تقال لخدمة القضية التي وضعها في سلم اولوياته... ويوصل من خلال ما يكتب او يقول او يرسم مقولة واضحة لا تحتمل الكثير من اوجه التأويل.....وهذا بالضبط ما يمثله نهاد بقاعي في كتابه هذا وعمله قبل هذا الكتاب وبعده...
واعادني الكتاب ومضامينه الى محاولة وضع المضامين المطروقة في سياقها الفلسطيني والعربي، ونشطُ ما قراته منذ ثلاثين عاما الى واجهة الذاكرة، فانك وانت تقلب الكتاب لتسترجع مشاهدا وحكايات ودراسات تناولت كل هذه القضايا بالتفصيل تارة وبالمختصر المفيد تارة اخرى. لقد عدت الى مضامين تقارير الامم المتحدة في التنمية الانسانية العربية –وهي تقارير اعتبرها من منهج مساقاتي في الجامعة حول السياسات العربية والزم طلابي بقراءتها-، ووجدتها، كما كتاب بقاعي، تعج بتقارير وتمحيص حول قمع الانسان العربي، وتفشي الظلم والفقر والاستثناء، وتحطيم الانسان وفكره وحريته على مذبح الكلام العالي في القومية والانتصارات الموهومة، كما تقارير الفساد والافساد، استبعاد المرأة من مركز الفعل السياسي والانساني والثقافي والاجتماعي.... وعندما تنتقل من العربي العام الى الفلسطيني الخاص، وتراجع دراسات وكتبا ومقالات علمية في وصف حالنا، تجدها تعج بالأمثلة اعلاه، وتتفوق عليها في وصف الاحتلال وجرائمه، والسيطرة، والمصادرة، ومنع العودة، والشقاق بين الاخوة، والتخلف الاجتماعي وحروب العائلات والقبائل على السلطة المحلية، وعنف غير مسبوق... وكل هذا والكثير الكثير مشمول في كتاب نهاد بقاعي، وهي جزء من همومة اليومية والانسانية والوطنية....فعن ماذا اذا يعبر كل هذا؟
إن هذا الكتاب ومن يقف وراءه، كاتبه-الذي اعرفه، هو التمثيل الافضل لما يعنيه المثقف، أنه الوارث الحقيقي في شعبنا لادوارد سعيد ومحمود درويش وناجي العلي وابناء جيلهم من المؤسسين.... انه ذاك الذي يتشارك مع شعبه ويشتبك، لكنه يترك فسحة من الوقت للوقوف جانبا وللتأمل في اوضاع شعبه، ولا يتردد عن السرد الشامل والشجاع لعيوب مجتمعه وشعبه وحتى جرائمه، قبل عيوب الاخرين وجرائمهم. انه باختصار لا يقبل ان يدعم بشكل اعمى كل ما يفعله شعبه وقيادته، ولا يقبل ان يقول بان "الاخرين يفعلون هذا... وهذا حال الدنيا"... ولم يصبه الفساد الذي قد يجره الى تبرير افعال القادة ومداهنتهم.... فحماس وفتح والاحزاب العربية وقياداتها كلها في مرمى الهدف.... واستهداف من يقوم بالجرائم ضد شعبنا لا يثنيه عن النظر داخليا واستهداف من يستحق ذلك....ولا يقبل باننا يجب ان نتجند لدعم "قياداتنا"، لان اسرائيل ضدنا، واوروبا ضدنا ودونالد ترامب ضدنا... يقف مع شعبه ضد هؤلاء، لكنه لا يقبل مداهنة القيادات والترويج لهم باسم هذا الخطر الخارجي... كما يفعل الكثيرون في مداهنة قياداتنا التي لا نعرف اصلا اين تقف هي... فيما يتعدى مصالحها ومصالح عائلاتها ومعاشات المقربين...لا يقبل ان نكون قطاريز للأخرين حتى لو دعمتهم كل انظمة القمع والفساد والافساد....
واستمرارا لذلك، فهو اممي وعلماني وديمقراطي....يعرف كيفية التوفيق بين الشخصي والعام، قضايا شعبي وقضايا الاخرين... لا يبالغ في التبجح في تاريخ شعبه وانجازاته ولا التقليل من انجازات الاخرين ونجاحاتهم...لا يقبل الحديث "الطنان الرنان" في تاريخ شعبه ولا ينعت الاخرين بالخساسة والوضاعة لمجرد كونهم اخرين....لا يقبل أن هنالك قدرا في الحياة، ويعرف كما الطبيب وعالم البيولوجيا بأن ليس هنالك قدرا بل سببا ونتيجة، هنالك اخفاق ونجاح... هنالك قراءة علمية ومعالجة للحالة....كما انه يتقن التمسك بالخيار الديمقراطي، فهو يدرك بقراءته العلمية والموضوعية، ان لا حياة ولا مستقبل لشعوب لا تمارس الخيار الديمقراطي بشكل حقيقي وعميق.... وعالمنا العربي يعج بالأمثلة، ولذلك فانه يكتب بخفة وثقة عن ضرورة التمسك بالخيار الديمقراطي... لا بل تقديسه والتمسك به كخيار وحيد يمكن ان يوصلنا الى شيء ما في المستقبل... والا انقرضنا كما انقرضت شعوب من قبلنا.
اننا امام عمل ثقافي منحاز للإنسانية ولشعبنا وهمومه... اننا امام نجم مثقف ساطع في سماء وطننا يهزنا عندما نتصفح الكتاب لكي يفهمنا بان شعبنا بخير... وإن الحق لا يموت... وان الرسالة وصلت " صامدون هنا الى ان تحين الساعة"... فهنيئا لشعبنا بك يا نهاد وبعملك وبإرادتك التي لا زالت تتوهج لتنتج اعمالا رائعة كما هذه التي بين ايدينا....
المقال على شرف اصدار كتاب "رماد ساخن" للفنان نهاد بقاعي
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net