الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 22 / نوفمبر 18:01

ورطة الوسطية والاعتدال مقابل الغُلُوّ والتشدد/ بقلم: د. منصور عباس

د. منصور عباس
نُشر: 04/10/18 17:13,  حُتلن: 23:34

د. منصور عباس في مقاله:

بينما المغالون في الدين والوطن، يحملون مبررات وجودهم بنفس ادعاءاتهم، فسلوكهم طبيعي وتلقائي، يبرره عدوان المعتدين، وكثرة المظالم وسوء الحال

خطورة خطاب الغلو والتشدد تكمن في تضييع البوصلة نحو الأهداف الحقيقية سواء في الدين بهداية الناس وتقريب البعيد ونشر الخير 

لعلنا نفصل لاحقا ما هي الوسطية وكيف نصيغ خطابا وسلوكا وسطيا؟ وما هي المصادر والمناهج المعرفية للوسطية والاعتدال الديني الاجتماعي والسياسي؟ 

تهمة الوسطية والاعتدال في السلوك الديني أو الاجتماعي أو السياسي جاهزة، فهي تمثل الضعف أو التخاذل أو التفريط، وأحيانا النفاق والهوان والمهادنة والمساومة والتنازل عن الثوابت في الدين والوطنية. بينما الغُلُو الديني والوطني يظهر بثوب التُّقى والقوة في الدين، وعلو الصوت، والصلابة في الوطنية والتمسك في الثوابت والتشدد مع المخالف او الخصم او العدو.
من هنا تنبع ورطة دعاة الوسطية في الأفكار والمواقف والسلوك فهم محتاجون دائما أن يدافعوا عن مواقفهم، ويبرروا سلوكهم، ويأتوا بالشواهد والأدلة على صحة اجتهاداتهم وأفكارهم، وسلامة انتمائهم وهويتهم الدينية أو الوطنية.
بينما المغالون في الدين والوطن، يحملون مبررات وجودهم بنفس ادعاءاتهم، فسلوكهم طبيعي وتلقائي، يبرره عدوان المعتدين، وكثرة المظالم وسوء الحال.

الأمثلة على ذلك كثيرة ساختار ثلاثة منها في ميادين التدين ثم السلوك الاجتماعي ثم الموقف السياسي.
في السياق الديني:
روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رَهْطٍ إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها( اعتبروها قليلة) فقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- ؟، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

ارجو ان نلتفت في هذا الحديث الصحيح إلى ملاحظتين. الملاحظة الأولى ان هؤلاء الرجال لما علموا عبادة رسول الله حكموا أنها "قليلة" وهذا خطأ، وقد فسّروا هذا "القلّة" بانه عليه الصلاة والسلام مغفور له، وهذا خطأ ثاني وقعوا فيه.
مَن حكم أن عبادته قليلة؟ وعلى ماذا قاسوا العبادة قليلة أو كثيرة؟ ولماذا علّلوا "قلّتها" بالمغفرة السابقة؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم مرة لما سئل عن شدة عبادته قال "افلا أكون عبدا شكورا".
الملاحظة الثانية تتعلق بقول النبي عليه الصلاة والسلام " أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" .
فالنبي يبين لهم ولنا أن الاعتبار ليس في ظاهر القلة والكثرة، وإنما لصدق التوجه وحقيقة الإيمان وتحقق الخشية والتقوى واتباع السنة والمنهج النبوي، وليس في الاجتهاد الشخصي الخاطئ وهوى النفس وجهلها بالفقه. وهذا هو مصدر الغلو والبعد عن الوسطية والاعتدال.

المثال الثاني في السلوك الاجتماعي:
نجد بعضنا يتحزب لعائلته أو جماعته بعصبية وحميّة، ويحكم على الآخرين دون أن يتبين الحقيقة وينصف الآخر من نفسه وجماعته وعائلته، خصوصا في هذه الأيام وهي أيام الانتخابات المحلية. ويتأكد الامر في كل ما يكتب على صفحات الفيسبوك وفي سلوكنا بالعنف الكلامي والفعلي، في تنفيذ حرفي لكن ليس أمين لحديث النبي صلى الله عليه وسلم ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما) وهذا هو الغلو الاجتماعي.
في الطرف الآخر يأتيك رجل ينصح لقومه وعائلته فيخرج ضد العصبية والحميّة، ويدعو للسلم الأهلي والصلح وحفظ الدماء والأعراض والأموال، فيُتّهم بالجبن والخذلان والمصلحة الشخصية، وربما التآمر مع الخصوم والأعداء . وينسى هؤلاء أن الوسطية والاعتدال والخيرية تكون في كل حديث النبي وليس في اجتزائه وتشويه معانيه. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره).

في السياق السياسي:
سأعود لأبلغ مثال في تاريخنا الإسلامي، يظهر فيه موقف الغلو السياسي مقابل الوسطية في السياسة الشرعية، وهو موقف عمر بن الخطاب وبعض المسلمين أمام النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية.
النبي عليه الصلاة والسلام يعقد صلحا مع قريش، يتضمن شروطا قاسية وغير منصفة أو متكافئة، منها رد المسلمين لقريش وعدم رد من جاء قريشا من المسلمين، والرجوع إلى المدينة دون اداء العمرة، وغيرها من نصوص الوثيقة كتغيير صيغة البسملة، وإسقاط صفة النبي في الوثيقة. وكان النبي قد اوضح استراتيجيته في المفاوضات فقال:" والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها".

عُقِد الصلحُ ووقف عمر بن الخطاب يعبر عن حالة الغضب والاحتجاج داخل صفوف الصحابة أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ويتسأل: ( يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال الرسول: بلى. أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال الرسول: يا ابن الخطاب! إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري، ولن يضيعني أبدا. قال عمر للرسول: أوليس كنت تُحدّثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال الرسول: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال عمر: لا. قال الرسول: فإنك آتيه ومطوف فيه.
وزجر أبو بكر الصديق عمرَ ابن الخطاب وقال له الزم غرزه، انه رسول الله وان الحق ما امر به .
ولما نزلت سورة " إنّا فتحنا لك فتحا مبينًا" أرسل رسول الله إلى عمر فأقرأه إياها، فقال عمر: يا رسول الله أَوَ فتح هو؟ قال الرسول: نعم. فطابت نفس عمر .
يطول الوقوف عند هذا الحديث وشرح دلالاته ولكني اريد أن أسجل بعض ملاحظات.
لم يكن عمر بن الخطاب وحيدا في هذا الموقف الجريئ والعجيب، كان معه أسيد بن حضير سيد الاوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وغيرهم من الصحابة، حتى كادوا لا يسمعون لأمر رسول الله بنحر الهدي.
أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعبرون عن مظلوميتهم تجاه قريش التي اضطهدتهم وطردتهم وحاربتهم وقتلت منهم أعدادا.
أن الصحابة اشتبه عليهم الأمر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد بشرهم بدخول البيت والطواف فيه ، فظنوا أن البشرى تتحقق هذا العام.
أن الصحابة لم يدركوا الأبعاد والحكمة والمصلحة المترتبة على صلح الحديبية ، مقابل التنازلات المرحلية في هذه الوثيقة.
أن الصحابة لم يفكروا في عواقب ومآلات فشل هذه المفاوضات وتوقع اشتعال حرب بينهم وبين قريش، وهم غير مستعدين ولا معدّين لها، وهذا ما حذر منه عروة بن مسعود الثقافي خلال المفاوضات الشاقة لعقد الصلح.
طبعا أنا توسعت في تقديم الأعذار للصحابة الكرام رضي الله عنهم لأخفف وطأة هذا الحديث على نفوس المؤمنين، ولكن جميع كتب السيرة تذكر هذا الكلام تفصيلا.
ما لا يمكن تبريره ولا قبوله من كلام عمر الفاروق هو غلوّه في الموقف، من خلال قوله "فيم نعطي الدنية في ديننا" . وقد تكرر منه موقف الغلو في مرحلة تطبيق المعاهدة، عندما جاء الصحابي الجليل أبا جندل فارا بدينه من قريش، فطلبه أبوه سهيل ابن عمرو من رسول الله ولم يرض بأن يجيزه. وصرخ أبو جندل بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنون في ديني؟ فقال الرسول : يا ابا جندل اصبر واحتسب فان الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم".
في هذا الموقف الشديد يقف عمر بن الخطاب مرة أخرى ويمشي إلى جنب ابي جندل ويقول له: اصبر يا ابا جندل فانما هم المشركون وإنما دم احدهم دم كلب، ويدني منه قائم سيفه. يقول عمر رجوت ان يأخذ السيف فيضرب به أباه، وهو سهيل ابن عمر، الرجل الذي عقد الصلح عن قريش.
صعب جدا ان نتفهم هذا الموقف من عمر بن الخطاب، الا ان نقول انه بشر يخطئ ويصيب وما زال طالبا يتعلم الدين والفقه والسياسة في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما عمر فقد ندم ندما شديدا ، يقول: "فما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به".
أما نحن اليوم فقد بلغنا الكمال وأحطنا بكل شيء علما، وأحرزنا العصمة، فلا ننطق الا حقا ولا نكتب الا صدقا ولا نفعل الا صوابا، ونرمي الناس بالخيانة والعمالة والنفاق، وضعف الدين وهشاشة الانتماء وتضييع الهوية، ونزكي أنفسنا بأننا أصحاب الحق ورجال المرحلة وغيرنا أصحاب الباطل ورجال الرذيلة.

خطورة خطاب الغلو والتشدد تكمن في تضييع البوصلة نحو الأهداف الحقيقية سواء في الدين بهداية الناس وتقريب البعيد ونشر الخير . وفي السياسة تضيع الفرص التي نحفظ بها حقوقنا وننتصر لقضيتنا ولا نعطي الذرائع لعدونا ليبطش بنا ويهدد وجودنا في وطننا وارضنا.
أما الوسطية فهي الحكمة ان تقول ما ينبغي ان يقال، وان تفعل ما ينبغي ان يفعل، ضمن ميزان الشريعة وضرورات الحالة ومتطلبات الواقع وإمكانات الناس وفرص تحقيق المصالح المرجوة ودفع المفاسد المتوقعة، والموازنة بينها.
ولعلنا نفصل لاحقا ما هي الوسطية وكيف نصيغ خطابا وسلوكا وسطيا؟ وما هي المصادر والمناهج المعرفية للوسطية والاعتدال الديني الاجتماعي والسياسي؟ 

 المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net   

مقالات متعلقة