الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 23 / نوفمبر 11:02

النقد سنة ربانية وضرورة بشرية- بقلم د.منصور عباس

د.منصور عباس
نُشر: 11/10/18 21:27,  حُتلن: 00:08

يؤلمنا أن يوجِّه الناسُ نقدَهم إلينا، لسلوكنا لأفكارنا وأحيانًا لنوايانا. لا نحب النقد لخشيتنا أن يهزّ كياننا، ويهدّد مكانتنا ويشرخ مصداقيتنا، ويثير تساؤلات تشكك في قناعاتنا واجتهاداتنا. 

من جهة أخرى نلاحظ أن مجرد انتقاد رجل مجتمع معروف أو مسؤول سياسي محلي أو قطري، تثير موجة من ردود الفعل من الأتباع والمؤيدين والمقربين، غالبا ما تستهل بالشتم والبخس والتشكيك.
هدف النقد هو تصحيح وتصويب وترشيد الحالة، فالمجتمع الذي لا يتعامل بايجابية مع النقد، ولا يشجع ثقافة النقد والتدافع الفكري، يحرم نفسه من فرصة تقويم الحالة المجتمعية السائدة، والنهوض الحضاري الشامل، ويعرض المجتمع للتفكك والانقسام، ويضعف تماسكه الاجتماعي والوطني، بالذات في مرحلة كمرحلة التنافس الانتخابي المحلي والقطري.
لا سبيل للارتقاء في المدارج، وتجنب الهبوط في المدارك كلها، دون أن نتغلب على هواجس النفس هذه، وأن ندرك أن النقد الموضوعي وأيضا الشخصي، يعطينا فرصة لرؤية الأمور في أنفسنا الفردية والجماعية، بوضوح ومن زوايا متعددة ومختلفة، تساعدنا على الفهم والتقييم والتقويم والترشيد لقناعاتنا وسلوكنا وأدائنا.

الله تعالى خاطب الناس جميعا في الكتب السماوية بلغة ناصحة وناقدة، متفاوتة في حدتها ودرجتها، وأحيانا تعرض لبعض الأشخاص بعينهم. لم يستثن الخطابُ الإلاهي الناقدُ الأنبياءَ والرسلَ الكرام صلوات الله عليهم، ولا الصحابةَ والحواريين والأتباع رضوان الله عليهم، فضلا عن المؤمنين خاصة والناس عامة، فلا أحد في ميزان الشرع فوق النقد.
احيانا نجد النقد في خطاب الوحي يتمثل بتوجيه تساؤل حول فعل معين، وأحيانا يصل النقد الى درجة العتب والتأنيب ثم التقريع والتوبيخ، وربما وصل حدّ إصدار حكم معين بحق الأشخاص المنتَقَدين، أو أفعالهم ومعتقداتهم.

الأمثلة في القران الكريم كثيرة ومعلومة، نأخذ منها عينة متنوعة، دون تفصيل وإسهاب، ونترك للقارئ خيار الرجوع للسياقات القرآنية النصّيّة والموضوعية والتنزيلية، لاستكشاف معالم المنهج القرآني في النقد.يمكن أن نستفيد منها على مستوى تذويت ثقافة النقد، وترويض النفس لتقبلها. ويمكن أيضا أن يستفاد من هذه الأمثلة لاستكشاف معالم المنهج والخطاب النقدي في القران الكريم، ليستثمر في تطوير فكر نقدي عصري راشد. وفي كلا المستويين أُمرنا أن نمارس النقد الذاتي أولا، ثم نقد الآخرين بمنهجية محددة منضبطة.

قال الله تعالى موجها خطابه للنبي صلى الله عليه وسلم: " عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)" .

وقال تعالى في حق الصحابة رضوان الله عليهم: "وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ".

وقال تعالى في حق داوود عليه السلام: " يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ".

وقال تعالى: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ".

وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ، إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ".

تلخيصا أشير أن هنالك دعوة مباشرة لممارسة النقد وتقبله إيجابيا في الشريعة الغراء. فلا ينبغي لأحد أو جماعة مهما كانت أن تضع نفسها فوق النقد والمراجعة.
قال الله تعالى: " وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " ، وقال تعالى: " وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ".
أما في الحديث الشريف الجامع فقال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ( الدِّينُ النَّصيحةُ ). وحديثه عليه الصلاة والسلام ( والَّذي نفسي بيدِه لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتنهَوُنَّ عن المنكرِ أو ليوشِكَنَّ اللهُ يبعثُ عليكم عذابًا منه ثمَّ تدعونه فلا يستجيبُ لكم).

وأخيرا حذرت الشريعة من ازدواجية المعايير والقيم، فجاء خطاب الشرع مغلِّظا: " أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ " . وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ".
ادعائي أننا نحتاج الى تغيير عميق في المفاهيم والأفكار والمبادئ والقيم، قبل الولوج في طرح مشاريع وبرامج تحتاج الى مرتكزات حقيقية لنجاح أي مشروع نهضة راشدة.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com

مقالات متعلقة