Share this link via
Or copy link
جاء في مقال د. أحمد أمارة:
تجسدت رمزية الأرض والمخاوف الفلسطينية مع طرح مشاريع تقسيم فلسطين ومن ثم بعد فقدان 78% من ارض فلسطين وإقامة دولة اسرائيل عليها
عدا عن كون المجتمع الفلسطيني مجتمع يرتبط بشكل وثيق بالأرض حيث اعتمد لفترة طويلة على الزراعة، فان الأرض هي جزء لا يتجزأ من المنظومة العربية الفلسطينية الاجتماعية الثقافية والاقتصادية. ومع بداية الهجرة الصهيونية لفلسطين منذ نهاية القرن التاسع عشر وبدء النقاش السياسي حول إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، اصبح للأرض مكانة خاصة في الصراع مع الصهيونية.
تجسدت رمزية الأرض والمخاوف الفلسطينية مع طرح مشاريع تقسيم فلسطين ومن ثم بعد فقدان 78% من ارض فلسطين وإقامة دولة اسرائيل عليها. إزدادت أهمية الأرض بعد النكبة وما خلقته من وقع كبير على المجتمع الفلسطيني، حيث أدّى الدمار الاجتماعي شبه الكامل وتجربة الشتات للتوق للأرض ولتمحور الذاكرة الجماعية الفلسطينية حول ألأرض وما يتعلق بها من حيّز اوسع. ومع تسارع العمليات الاسرائيلية من هدم للقرى الفلسطينية ومن مصادرات للأرض، وإقامة المستعمرات الاسرائيلية عليها، ومن ثم احتلال باقي فلسطين في 1967، زاد كل ذلك من حدّة الصراع حول الأرض ومن كونها محورا هاما في تحديد علاقة اسرائيل بالفلسطينيين. ووصل أوج ترسيخ أهمية الارض على المستوى السياسي مع يوم الأرض منذ العام 1976 واستمرار احياء تلك الذكرى سنويا. يعود منطق وفعل السيطرة على الارض وتهويدها الى القرن التاسع عشر. وكي ندرك سياق يوم الارض والمشروع الاستعماري المستمر علينا طرح العمق التاريخي والسياسي وان نرجع الى بدايات المشروع الصهيوني في فلسطين والاهم من ذلك كله هو فهمنا لتاريخنا-واقعنا الفلسطيني.
بدأت الحركة الصهيونية بالسيطرة الفعلية على الأرض في فلسطين، أو ما كان يعرف في الفترة العثمانية "بأرض فلسطين"، منذ العام 1878 وتستمر تلك المحاولة حتى يومنا هذا. فقد وضعت الحركة نصب عينيها مهمة السيطرة قدر الامكان على اراضي فلسطين، استغلالها، وحيازة ملكيتها باسم الشعب اليهودي عامةً وليس تحت ملكية خاصة. كان النقاش الصهيوني في البداية حول الأساليب المتاحة امامها للاستلاء على الأرض يتمحور حول ثلاث منها وهي السيطرة عن طريق استعمال القوة (مثلما هي الحالة في نماذج استعمارية-استيطانية مختلفة) واما عن طريق استعمال القانون (للمصادرة او انكار حق الملكية)، واما عن طريق شراء الارض بالمال. وحيث كان ينقص الحركة في بداياتها القوة الفعلية العسكرية والقدرة على سن القوانين للمصادرة لذا فقد بقي أمامها في فترة ما قبل الدولة امكانية شراء الأراضي إضافة لمحاولة الحصول على عطاءات أرض من حكومة الانتداب البريطانية. أما بعد 1948 فقد اصبحت الاساليب المتاحة الاساسية هي العنف والقانون بدل الشراء.
"الفلسطينيون باعوا فلسطين"- دعاية صهيونية يجترّها البعض:
كثيرا ما نسمع الادّعاء بأن الفلسطينيين باعوا بلدهم إمّا من أفواه الفلسطينيين أو عرب آخرين وأنّ ليس للفلسطينيين إلّا أن يلوموا ذاتهم على ذلك، مُروّجين بهذا للمجهود الصهيوني بالدعاية لكسب الشرعية وتفريغ محاولات النضال ضد سياسات التهويد. لكن الحقائق تشير عكس ذلك تماما.
لقد بلغ الكم الإجمالي للأراضي التي يملكها الأفراد والمنظمات اليهودية والصهيونية بحلول العام 1948 نحو 1.7 مليون دونم والتي شكلت 6٪ من مساحة فلسطين البالغة نحو 27 مليون دونم، وهو ما يعادل حوالي 8٪ من المنطقة التي أصبحت فيما بعد إسرائيل. بما معناه بأنه على مدى 60 عاما استطاعت الحركة الصهيونية شراء 6% من فلسطين وقد تم بيع قسم كبير من تلك الاراضي من عرب غير فلسطينيين- مثلا بيع الأراضي بين حيفا وبيسان بما يشمل مرج ابن عامر (ما يقارب 230000 دونم) من عائلتي سرسك وطويني اللبنانيتين، أو شراء اراضٍ وأملاك من مؤسسات كالكنيسة الأورثوذكسية وغيرها. وللمقارنة المبسطة فإن ملكية الاجانب في مصر مثلاً كانت أكثر من 6% قبل مرحلة التأميم هناك.
(تكفي بعض الوثائق التي استخرجتها خلال بحثي من الأراشيف المختلفة في تركيا وبريطانيا وفي الارشيفين الاسرائيلي والصهيوني لتوضح الملكية الفلسطينية وعملية السيطرة الصهيونية على الارض).
خارطة من الارشيف البريطاني (1944) تعرض الاراضي اليهودية في فلسطين. باللون الازرق اراضي صندوق اراضي اسرائيل وبالاخضر اراضي مؤسسات ومنظمات يهودية اخرى.
على الرغم من اننا نركّز بالعادة على فترة الانتداب البريطاني ودور بريطانيا بمساعدة الصهيونية في استعمار فلسطين الا أن ثلث كمية الاراضي (600,000 دونم) وتأسيس عشرات المستعمرات اليهودية قد تمّ إبّان الحكم العثماني. على الرغم من سن القوانين العثمانية لمنع هجرة اليهود لفلسطين وبيع الأرض لهم الا انه على ارض الواقع قد نجحت الحركة بتأسيس نواة لابأس بها في تلك الفترة ولن نخوض في كيفية واسباب ذلك ونكتفي بالاشارة لضعف الامبراطورية ودعم القوى الاوروبية للصهيونية لتمكينها من شراء الاراضي وبناء المستعمرات ولعمليات شراء ارض عن طريق وسطاء يهود عثمانيين والذين سمح لهم القانون العثماني بشراء الأرض (من أولها وأهمها بيتح تكفا في ملبس وريشون لتسيون في عيون قارة).
مستند من الارشيف الصهيوني يثبت شراء وسطاء يهود عثمانيين للارض باسم منظمات صهيونية والتي كان القانون العثماني يمنعها من شراء الارض في فلسطين (1913)- الوسيط هنا هو من سكان ريشون لتسيون-عيون قارة. شراء ارض جمّامة في بئر السبع المعروفة اسرائيليا بمستعمرة روحاما.
بعد 1917 عندما احتل البريطانيون فلسطين قاموا بتوفير الظروف السياسية والقانونية الأفضل للحركة الصهيونية من أجل شراء الأراضي حيث بدأت حكومة الانتداب بالغاء التقييدات القانونية العثمانية وقاموا بسن قوانين مختلفة تتعلق بالأرض وحقوق الملكية وتسجيلها ومنح القروض لتُسهل عمليه الشراء وتؤمِّن بشكل أفضل مُلكية الحركة الصهيونية في فلسطين. وتتماشى تلك االسياسة مع وعد بلفور ومع نص المادّة 6 لصك انتداب عصبة الأمم الذي حوّل بريطانيا بإستعمار فلسطين على ضوء اتفاقها مع فرنسا باطار اتفاقية سايكس-بيكو. وتبنت المادة 6 لصك الانتداب نص وروح وعد بلفور مطالبة حكومة الانتداب بتسهيل الهجرة اليهودية وبناية المستوطنات على أراضي دوله واراضي خالية. وقامت الحكومة البريطانية فعلا بتسهيل عطاءات مختلفة في الاراضي لمنظمات ومستثمرين يهود.
مراسلات وقرارات عثمانية حول منع بيع الارض لليهود في متصرفية القدس ومنع تسجيلها بحسب الاوامر لمكاتب الطابو (من الارشيف العثماني في استانبول- 1915- حيث استمرت محاولات عرقلة ومنع البيع حتى الحرب العالمية الاولى).
لا بدّ لنا أن نفرق بمعنى وابعاد عملية بيع الارض في فلسطين على مدى الفترات المختلفة فبيعها في سنة 1900 يختلف عن 1910 او 1930. فمع نمو المشروع الصهيوني وزيادة قوته اصبح بيع الاراضي من المحرمات لدى الغالبية العظمى للفلسطينيين وتمّ اعتباره خيانة. غير أن الحركة الصهيونية تتباهى بقدرتها على "تخليص" (גאולת הקרקע) من ايدي الفلسطينيين كعملية بطولة سياسية إلا أنه عدا عن ان عمليات البيع الواسعة تمت من غير الفلسطينيين الا انه لا يمكن اعتبار كل عملية بيع "كبيع سياسي" فقط وانما "كبيع اقتصادي" عادي يجري في مجتمعات مختلفة. الا انه مع وصول النازية للحكم وازدياد الهجرة والتعاطف الدولي مع الصهيونية اصبح تهديد الصهيونية اكثر وضوحا واكثر مباشراً لذا كان بيع الارض محرم. وتلك التطورات منذ بداية الثلاثينيات هي التي اشعلت الثورة الفلسطينية الكبرى بين 1936-1939 والتي لن نخوض للأسف في تفاصيلها هنا وانما يكفي الاشارة بأن نكبة فلسطين في الـ 1948 والهزيمة مرتبطة باعدامات المناضلين الفلسطينيين واسرهم ومنع تسلحهم منذ الثلاثينيات مما أضعف من جاهزية وقدرة المواجهة في الـ 1948. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية وتجلي بشاعاتها بما يشمل ابادة اليهود فان قد اصبحت الارض خصبة للتعاطف الاوروبي الامريكي ولدعم الصهيونية وتقسيم فلسطين لدولتين: عربية ويهودية. وعلى الرغم من ان اليهود تملكّوا فقط 6% من فلسطين الا ان قرار التقسيم 181 (29-11-1947) قد منح الصهيونية ما مجموعه 55% من فلسطين وتدويل منطقة القدس وحوالي 43% للدولة "العربية".
أما بعد النكبة وتأسيس الدولة فقد اختلفت القصة تماما وسعت الحركة الصهيونية والمتمثلة بالدولة لاستغلال الفرصة الذهبية مع ترحيل غالبية الفلسطينيين وتأسيس الدولة لتحقيق مساعيها في السيطرة على الارض وتهويدها. كما اشرنا فقد سيطرت الحركة الصهيونية على 8% من مساحة دولة اسرائيل اما اليوم فان الدولة تسيطر على 95% من الارض (أرض الصندوق القومي اليهودي وأراضي دولة) وذلك من خلال عملية متضافرة للعنف والقانون (اذا ما امكن التفريق بينهما) وعملية ممنهجة لسلب الاراضي الفلسطينية وتغيير معالمها. لقد اصبح ممكناً بعد العام 1948، عن طريق القوه والعنف الاستيلاء على الارض الفلسطينية مع توظيف القانون ومظلة العنف والتهديد باستعماله. لذا لا يمكننا في هذا السياق تغييب القوه والعنف المرتبطين بمضمون ومفهوم القانون ذاته، بالذات في اطار علاقات القوة الاستعمارية وبين الاغلبية والأقلية، في تاريخ الصهيونية وتأسيس اسرائيل. أهم القوانين الاسرائيلية في هذا المجال هو "قانون املاك الغائبين" (1950) أي املاك الفلسطينيين المهجرين اللاجئين.
مصادرة أملاك المهجرين:
لقد تزامنت النقاشات الصهيونية لإعداد الإطار القانوني للسيطرة ولإدارة أملاك المهجرين الفلسطينيين مع خضم عمليات الطرد والتخويف والتهجير وذلك على الأقل منذ آذار 1948 حيث تم تعيين لجان مختلفة من الهاجانا وبعدها من الجيش الاسرائيلي لإدارة الاملاك المهجورة وقد بدأت في حزيران 1948 بعد الاعلان عن تأسيس الدولة عملياً مناقشة بعض المسودات القانونية في هذا الصدد. وتبنت الحكومة الاسرائيلية المؤقتة في حينه نظام الاملاك المهجورة بتاريخ 21/6/1948 وتتالت من بعده تبني أوامر وأنظمة مختلفة وانتهى الأمر بعد اتفاقيات الهدنة بتبني قانون شامل سنة 1950 والذي والذي لعب دورا مركزياً في السنوات الاولى لإسرائيل في السيطرة بشكل كامل على الأملاك المنقولة وغير المنقولة لما يقارب ثلاث ارباع سكان فلسطين والمقدّر عددهم ب 800،000 مهجّر. وبذلك تخضع املاك اللاجئين والمهجرين الداخليين، المنقولة وغير المنقولة، لسيطرة الدولة. وفقا لمايكل فيشباخ، فقد صادرت الحكومة الإسرائيلية بموجب هذا القانون 4،865،334 دونم، و55،000 منزل وشقة، وحوالي 8،000 شركة ومتجر. لقد تمّ التصرف بغالبية تلك الاموال ان لم يكن جميعها عن طريق تخصيص اراضي زراعية واسعة للمستوطنات اليهودية واسكان السكان والمهاجرين اليهود في الشقق الفلسطينية التي لم يتم هدمها بالذات في المدن الفلسطينية كيافا وحيفا واللد والرملة والقدس وعكا. وقد بدأت الحكومة الاسرائيلية بطرح مناقصات لبيع بعض تلك الاملاك لتصبح تحت الملكية الخاصة، وقد باعت سلطة اراضي اسرائيل حتى نهاية العام 2015 اكثر من 900 ملكا من املاك المهجرين.
كما وتجدر الاشارة ان اغلب املاك الوقف الاسلامي بالذات الوقف الخيري الذي كان تحت ادارة المجلس الاسلامي الاعلى (تشمل اراضي زراعية، عمارات ومؤسسات) كان قد تم مصادرتها بحسب هذا القانون. مدعية ان غالبية اعضاء إدارة المجلس الاسلامي أصبحوا غائبين وفق قانون املاك الغائبين، فإنّ الحكومة اعتبرت المجلس ك"غائب" وتعاملت مع املاك الوقف على انها ملك غائب. تجاهلت الحكومة والمحاكم حقيقة أن الوقف لا يمكن تغييره وأنه لله وللرعيّة جميعاً وليس ملكاً خاصاً للمجلس الاسلامي الاعلى او لمُتولّي او مدير وقف معين.
مصادرة أملاك المواطنين:
أما القانون الهام الاخر فهو قانون استملاك الاراضي من العام 1953. لقد سيطرت القوات العسكرية الصهيونية والاسرائيلية من بعدها على أراضٍ كثيرة خلال الحرب وتم استعمال وتخصيص قسم منها لجهات عديدة وبالاساس لمستعمرات يهودية من اجل استغلالها. كان قسم من تلك السيطرة على الاراضي يرتكز على اوامر طوارئ بريطانية واسرائيلية وبعضها لم تكن لها أي ركيزة قانونية. لذا تم تشريع قانون امتلاك الأراضي لسنة 1953 كي يُقِرّ بأثر رجعي فئة معينة من المصادرات المختلفة عن طريق تدعيمها بمرجعية قانونية. أقرّ القانون السيطرات القائمة لأراض غير تابعة لمهجرين والتي يتم أو تمّ استغلالها من أجل أحد الأهداف التالية وهي "التنمية"، الاستيطان، أو" الأمن" كما ومهدّ أيضا لمصادرات مستقبلية من مواطنين لنفس الأهداف. لقد صادرت الحكومة بموجب هذا القانون ما مجمله 1.25 مليون دونم، وقد تم نقل الأراضي المُصادرة إلى سلطة التطوير.
الارض والفلسطينيون والمصلحة العامة - اليهودية:
جزء هام آخر من المنظومة القانونية الاسرائيلية للسيطرة على الحيّز الفلسطيني والتي اعتمدت واستغلّت بشكل واسع قوانين بريطانية استعماريه، هو قانون الارض (امتلاك للمصلحة العامّة- 1943). ما يُميِّز هذا القانون هو عدم استهدافه او تطبيقه بشكل جارف لفئة سكانية معينه، كقانون املاك الغائبين، او لنوعية معينة من الاراضي، كقانون استملاك الاراضي، وانما تمّ تنفيذه وتطبيقه على فترة زمنية طويلة و في مناطق جغرافية مختلفة. يسمح القانون بمصادرة الملك خاص من أجل المصلحة العامة وهو توجه قانوني موجود ومتّبع في دول عديدة لكن تمّ توظيفه في اسرائيل لخدمة مشروع التهويد وبذلك للمصلحة "اليهودية" الخاصة وليس للمصلحة العامة. يُعطي القانون عملياً قوّة وصلاحيات واسعة للسلطة التنفيذية حيث انه لايعرّف بشكل صريح ما هي "المصلحة العامة" تاركا هذه السلطة بيد وزير المالية حيث ينص القانون بأن "المصلحة العامة" هي أي هدف او مصلحة أقرّ وزير المالية على انها مصلحة عامة. ومن اولى مصادرات الاراضي بحسب هذا القانون هي مصادرة اراضي من الناصرة وقراها المجاورة من اجل اقامة تجمع مباني حكومية واقامة مستوطنة يهودية لمناهضة المدينة الفلسطينية الناصرة والتواجد الفلسطيني بشكل عام في الجليل كجزء من مشروع تهويد الجليل- وهي نتسيرت عليت.
وكان قانون املاك الدولة من العام 1951 قد خوّل اسرائيل بوراثة الاراضي والاملاك المسجلة على اسم المندوب السامي البريطاني في فلسطين كاملاك دولة موسعةً بذلك رقعة السيطرة عل فلسطين بعد 1948. ومع السيطرة على ملايين دونمات الفلسطينيين خلال عقد من الزمن وبشكل تجاوز بكثير ما استطاعت الحركة الصهيونية انجازه على مدى ستة عقود وبدعم من قوى استعمارية اوروبية الا انها لم تكتف وصادرت غالبية املاك الفلسطينيين الباقين تحت الحكم الاسرائيلي. وقد اعتمدت الحكومة الاسرائيلية على قوانين بريطانية وعثمانية لصالح مشروعها التهويدي وكان القضاء الاسرائيلي في المرصاد لدعم ذلك المجهود.
"نحن ببساطة نطبق قوانين سابقة لم نسنّها نحن اصلاً"- الاستيلاء عن طريق اعادة تفسير قوانين عثمانية وبريطانية
شكّلت عملية تسوية الأراضي كعملية إدارية-شبه قضائية الى جانب قوانين الأراضي القائمة كأداة رئيسية أخرى لسلب الأراضي الفلسطينية، حيث لعبت وما زالت تلعب دوراً رئيسياً في هذا الباب وبالذات في قضية الأرض في بئر السبع أو ما يُعرف بالنقب. حيث تنكر اسرائيل حتى المصادرة والاستيلاء مدّعيةً انها ببساطة تطبق قوانين سابقة قبل تأسيسها أصلا. تهدف عملية تسوية الأراضي والتي أُنشئت في 1928 من قبل البريطانيين، الى تحديد وتسجيل حقوق الملكية في الاراضي في البلاد. تعتمد عملية التسوية على المسوحات الطبوغرافية والمساحية، والتي تقسم الأراضي إلى بلوكات وقطع ذات حدود محددة بوضوح. بحلول العام 1948، نجح البريطانيون بتسجيل نحو خمسة ونصف مليون دونم من فلسطين (27 مليون دونم)، حيث يقع خمسة ملايين دونم منها داخل ما اصبح دولة إسرائيل.
استمرت الحكومة الإسرائيلية في عملية تسوية الأراضي خلال الخمسينيات والستينيات في شمالي البلاد لكنها سخَّرت مجموعة من المعايير التشريعية والقضائية الجديدة التي قيَّدت إلى حد كبير قدرة اصحاب الاراضي الفلسطينيين في إثبات ملكيتهم للأراضي (مثل استعمال الصور الجوية، حساب النسبة المزروعة من الارض، وعدم الأخذ بادّلة عديدة هامة مثل وصولات دفع الضرائب على الارض كدليل لاستعمال الارض وفلاحتها). وتحت ادّعاءات بان الارض هي ارض موات او ارض محلول فقد استولت الحكومة على اراضي في الجليل وبئر السبع وتنفذ ذلك ايضا في الضفة الغربية بشكل موسع. وسنفسّر التحايل القانوني الاسرائيلي في هذا المجال للقوانين العثمانية والبريطانية في فرصة اخرى لتعذر المساحة في هذه الورقة ولاهمية هذا الموضوع بالذات بما يخص اراضي ديرة بئر السبع والاستعمار هناك وفي الضفة الغربية.
سند حاقاني لاراضي في بئر السبع والتي تدّعي اسرائيل ان "البدو" لا يملكوا الارض ولا يفلحوها اصلا وانما هم رُحّل وارضهم هي ارض موات وبذلك فهي ارض دولة (من سنة 1902)
من الواضح أن القضاء الاسرائيلي كان بمثابة اليد الطويلة للحكومة ووفّر لها غِطاء الامان القانوني-القضائي لتبييض السياسات الصهيونية تجاه الارض والحيّز الفلسطيني بشكل عام. تجدر الاشارة هنا بأن المحاكم الإسرائيلية لعبت دورا كبيرا على هذا الصعيد منذ 1948. فمثلا من حوالي 8،000 دعوى ملكية امام المحاكم الاسرائيلية خلال تسوية الأراضي في الجليل ضمن خطة تهويد الجليل، فازت الدولة ب- 85٪ منها ومن بين مئات الدعاوى ببئر السبع فان نسبة فوز الدولة هي 100%. كما واجتهدت المحكمة العليا باجتهادات وتفسيرات قانونية مختلفة حدَّت من امكانية إثبات الملكية الفلسطينية. ومنذ تأسيسها وحتى اليوم، فقد تدّخلت المحكمة العليا الاسرائيلية مثلاُ فقط لمرة واحدة لتقييد اليد المُطلقة للحكومة بمصادرة الملك الخاص، وحتّى هذا القرار غير المسبوق والصادر سنة 1994، كان قد تمّ التراجع عنه وتغييره عند إعادة سماع القضية وذلك بما يتعلق بمصادرة بموجب قانون الارض (امتلاك للمصلحة العامّة- 1943).
ما بعد المصادرة: التهويد والتقييد وتجريد الهوية الفلسطينية ومحاولات مصادرة التاريخ
لقد راكمت الحكومة الاسرائيلية سيطرتها وادّعاء ملكيتها للأرض بصورة شبه محكمة تصل ل 95% من الاراضي بحسب القوانين والممارسات الادارية المختلفة المعروضة اعلاه. ومع ادّعاءها للحق وللملكية تُجرَم اسرائيل الوجود الفلسطيني بادّعاءات مختلفة بالاعتداء على "املاك الدولة" او البناء غير المرخص او فلاحة اراضي دولة ولذا تُحاكم وتسجن وتهدم وتجرم وتبيد المزروعات تحت غطاء "فرض سلطة القانون." لا تقتصر انتهاكات حقوق المواطنين الفلسطينيين عند مصادرة ارضهم فحسب، بل ان الجزئية التي لا تقل اهمية هي سياسة التهويد- أي مصادرة الأرض أولاً ومن ثم تأميمها، ووضعها تحت ملكية واستعمال وفائدة الشعب اليهودي، ومنحها لتصرف مستوطنات يهودية، توطين مهاجرين يهود ببيوت اللاجئين الفلسطينيين، بناء مستوطنات يهودية. كما وتتطلبّ سياسة التهويد ايضاً محو الهوية العربية الفلسطينية لذلك الحيز وبذلك شمل هدم اكثر من 450 قرية فلسطينية، اهمال المناطق العربية وتغييبها عن ذلك الحيّز، إعادة تسمية المناطق والقرى بأسماء عبرية، واغلاق الباب امام الفلسطينيين المواطنين (في إسرائيل) لدخول ذلك الحيّز اليهودي الجديد. كمينيتس وقضية العراقيب وأم الحيران ومخطط الطنطور وسياسات الولادة والاقتصاد والقدس والتعليم واللغة ومناقصات الاراضي والتخطيط والبناء ومحطات الشرطة والمصادرات كلها قسم من هذا المشروع المستمر- فالنكبة مستمرة.
تأتي أهمية كل تلك السياسات الاسرائيلية كقسم من المشروع الصهيوني للبناء شبه- الاصطناعي لشعب جديد بأرض جديدة. لقد تشكّل الوجود العربي وهوية الارض العربية-الفلسطينية بشكل عضوي على مدى قرون. وبما ان المشروع الصهيوني هدف لهجرة اليهود لفلسطين واستيطانهم فيها من خلال "اعادة احياء" الشعب اليهودي على شاكلة مجموعة قومية جديدة تهدف لسيادة يهودية سياسية باطار دولة، لذا تطلب ذلك خلق وبناء هويّة جديدة لفلسطين. وكان من الواضح بان ذلك كان لن ليتمّ بفراغ وانما على حساب الموجود. لكن اضافةً للسياسة العملية والفعلية للحركة الصهيونية في فلسطين فبقيت الحركة بمأزق الشرعيّة: شرعنة مشروعها (legitimation)، وجودها، وحقّها بالاستيلاء على فلسطين وتهويدها، وبالذات بعد إقامة دولة اسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني. وما زالت تعمل تلك السياسات على حكر التاريخ ايضا غير مكتفية بالاستيلاء على الارض. لكن ما اثبته الفلسطينيون واحياء يوم الارض كجزء من ذلك هو ان القضية ما زالت مستمرة ومركزية وما زالت اسرائيل تحاول فرض حقها وشرعيتها الذي تحاول كسبها من ضحيتها الرافضة.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com