الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 23:01

لا نغار ولا نتعلم والمشتركة خير دليل/ بقلم: حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 17/07/19 17:05,  حُتلن: 21:12

حسين فاعور الساعدي في مقاله:

قرانا ومدننا فقدت حصانتها الاقتصادية وحصانتها الاجتماعية وتحولت إلى فنادق للنوم. فنادق غير آمنة وغير مغرية للعيش فيها

"اللي ما بغار أبوه حمار" مثل شعبي نردده كثيراً ولا نعمل به كبقية أمثالنا الشعبية الكثيرة التي ما هي إلا خلاصة تجربة جمعية طويلة، والتي نقولها ولا نعمل بها.


لأكثر من سبعين عاماً نعيش بينهم ومعهم. أخذنا منهم كل العادات والتصرفات السيئة والرديئة ولم نأخذ منهم شيئاً واحداً إيجابياً.
سأبدأ من قريتي الحسينية كعينة للمنطقة المحيطة بها ولفلسطين ولكل العالم العربي:
بالقرب من الحسينية وفي كل الجليل قرى أقيمت في أواخر سنوات السبعين الكثير من القرى اليهودية في مشروع توطين الجليل أو تهويد الجليل أو تطوير الجليل (سموه كيفما شئتم). هذه القرى أقيمت وفق الرؤية الإستراتيجية للمفكر والمخطط الصهيوني المخضرم أرنون سوفر الذي درس واستوعب فشل التجربة الصهيونية في استيطان الجليل قبل سنوات السبعين ووضع الخطط البديلة المبنية على التعلم من أخطاء الماضي وعدم تكرارها. لن أخوض في فكر أرنون سوفر الذي علمني في الجامعة وعرفته عن قرب وسأترك ذلك لمناسبة أخرى.


الفكرة الأساسية لنجاح هذه القرى ومواصلة بقائها هي الحصانة الذاتية. هذه الحصانة مبنية على عدة أسس اقتصادية واجتماعية سلوكية أهمها:
1- الاكتفاء الذاتي في أكثر ما يمكن من المجالات. وبما أن معظم هذه القرى أو المناطر، كما يسمونها، صغيرة ولا مجال لتطوير حصانة ذاتية لكل واحدة منها فقد تم الاستعانة بنموذج التكامل والتكافل اللوائي. حيث تخصصت كل قرية بمجال معين من المجالات الاقتصادية التشغيلية: فقرية تربي النحل وقرية تربي الماعز وقرية أخرى تربي الأبقار وأخرى تربي الدجاج وهكذا بحيث تصبح هذه القرى وحدة اقتصادية واحدة ومتكاملة.
2- الاكتفاء الذاتي الأسري. قرب قريتي الحسينية أقيمت في أواخر السبعينات قرية معليه تسفيا. بجانب كل بيت من بيوت هذه القرية يوجد بئر ماء لتوفير مياه الشرب عند الضرورة، حظيرة صغيرة لعدد قليل من الماعز للحليب وقن صغير لعدد من الدجاجات لتوفير البيض. في الحسينية وهي قرية بدوية عريقة اختفت كل آبار المياه، توقفنا عن العمل في الزراعة، بعنا قطعاننا وصرنا نتذمر (وبالذات نساؤنا) من تربية الحيوانات البيتية ونعتبره تخلفاً. لقد انقرضت تربية المواشي والدواجن في كل قرانا ومدننا وليس في الحسينية فقط. أضف إلى ذلك انقراض الكثير من تقاليدنا الاقتصادية التي كانت تعطي الأسرة الحصانة والمنعة كصناعة الخبز البيتي الذي كان للمرأة العربية دورها الحاسم والكاسح في اختفاء هذا الصناعة الجميلة. هذا الاختفاء لصناعة الخبز البيتي بالإضافة إلى أمور أخرى جعل الأسرة العربية أسرة هشة، مستهلكة وغير منتجة تعتمد بشكل كامل ويومي على ما يوفره السوق.
3- الأمن الذاتي. القرى اليهودية التي تجاورنا تعتمد على ذاتها في المحافظة على الأمن. فكل مواطن يدفع مبلغاً شهرياً يتراوح بين 200-300 شيكل لصرفها على توفير الأمن والأمان له ولأسرته بواسطة الحراسة وكاميرات المراقبة. هذه القرى التي أقيمت من قبل الدولة لا تكتفي بما توفره الدولة لها من أمن بل تقوم هي بالاعتماد على ذاتها. أما نحن فننتظر الدولة لتوفر لنا الأمن والأمان. لذلك أصبحت هذه القرى الجديدة التي لا جذور عريقة لها في المكان آمنة ومستقرة وقرانا العريقة أوكاراً للمجرمين القتلة من أبنائنا وبناتنا الذين لم نحسن تربيتهم وندافع عنهم ونتستر على جرائمهم.
4- الحيز العام. قراهم جميلة مرتبة منسقة تزينها الورود والعشب الأخضر والأشجار والشوارع الواسعة النظيفة لأنهم يعترفون بالحيز العام ويحترمونه ويفرقون بينه وبين الحيز الخاص لكنهم لا ينكرون الترابط والتكامل بين الحيز العام والحيز الخاص وتأثير أحدهما على الآخر. أما نحن فلا وجود للحيز العام في مفهومنا ومعتقداتنا. فالحيز العام لا يعنينا في شيء إلا إذا كنا نريد الاستحواذ عليه وتحويله إلى موقف لسيارتنا أو مكب لنفاياتنا. لذلك أصبحت قرانا كتل متراصة من البنايات الفخمة المحاطة بالفوضى القاتلة والنفايات المقززة. لقد طغى الخاص على العام في حياتنا الاجتماعية وفي حياتنا السياسية. طغى علية وابتلعه بحيث أصبحنا لا نرى إلا أنفسنا فأفراحنا في الشارع العام نغلقه ونستولي عليه لعدة أيام نغني بمكبرات الصوت ونرقص حتى ساعة متأخرة من الليل غير مراعين شؤون مريض يعاني أو طالب يدرس لامتحان في اليوم التالي أو متعب يريد أن ينام. وفي السياسة نقيم المشتركة لنوفر الرئاسة لفلان ونضمن الكنيست لعلان ونرتبها حسب مصالحنا الفردية وعلاقاتنا الشخصية المبنية على توظيف الولد وتشغيل الأخت. والويل والثبور لمن لا يؤيد ويدعم ويدلي بصوته. وفي الدائرة الأوسع، اليهودي المحتل والغاصب يجري انتخابات كل اربع سنوات وكل عدة أشهر إذا لزم الأمر، بينما الفلسطيني المقهور والمحتلة أرضه يتشبث بقيادة فشل برنامجها الذي أوجدها وفشلت هي فشلاً مخيفاً في كل المجالات. فقضية فلسطين اليوم هي فتح وحماس بل أبو مازن وإسماعيل هنية.
5- المصلحة العامة. هذا المصطلح موجود في لغتنا فقط. ومن يفكر به أو يعمل به يعد شاذاً او متخلفاً أو ليس "فرتيكاً". عندهم هنالك شيء اسمه مجالس إقليمية وهي سلطات محلية لأكثر من قرية. هذه النظام معمول به منذ سنوات طويلة ويوفر الكثير من المشاريع والخطط التي لا يمكن توفيرها لقرى متفرقة. ولم نسمع أن قامت قرية من هذه القرى بالمطالبة بالانفصال عن هذه المجالس عدا القرى العربية التي لها أسبابها التي لا مجال لذكرها في هذه العجالة. لقد تم دمج قرى عربية متقاربة جداً كدالية الكرمل وعسفيا ودير الأسد-البعنة ومجد الكروم وغيرها لخلق قاعدة لمشاريع وبرامج كبيرة إلا أن هذه القرى عادت وانفصلت لاننا شعب لا يجيد ولا يحب العمل الجماعي ونريد أكبر عدد ممكن من الرؤساء والموظفين. على هذا النمط تم دمج الأحزاب العربية في "المشتركة" ولكنها عادت وانفصلت لأن الرابط لم يكن المصلحة العامة وإنما المصلحة الحزبية في أحسن الأحوال والمصلحة الشخصية بشكل عام. اختلفنا على الرئاسة، واختلفنا على المقاعد ولم نختلف على المبادئ أو الطرح. فتوفير مقعد لشخص ما وضمان الوصول إلى الكنيست لحزب معين أصبح الهدف الأول والأخير لجماهيرنا التي تعاني من قضايا مصيرية. الجمهور اليوم مشغول بهذه القضايا ناسياً قضية هدم البيوت والضائقة السكنية لعدم توفر الأرض للبناء، وناسياً قضية العنف والجريمة المستشرية في مجتمعنا كالنار في الهشيم.
6- عدم تقديس ما ليس مقدساً. عندهم في هذه القرى الصغيرة التابعة للمجالس الإقليمية يتم تغيير الرؤساء كل دورة أو دورتين انتخابيتين على الأكثر رغم إنجازاتهم ونجاحاتهم في خدمة المواطن. وفي الدائرة السياسية الأوسع هنالك أحزاب عريقة بنت الدولة ولكنها انقرضت كمباي ومبام أو ضعفت وسلمت السلطة لغيرها كحزب العمل وكحزب كديما فيما بعد. أما عندنا فالحزب الذي يولد لا يموت ولا يتطور لأنه العباءة التي نستر بها عوراتنا ونزواتنا والمتراس الذي يلجأ إليه الانتهازيين المتطفلين للتصويب على كل مخلص يريد التقدم والتغيير. المشتركة التي حولوها إلى قضيتنا المصيرية ما هي إلا وليدة زواج متعة بين أحزاب أكل الدهر عليها وشرب وأحزاب عائلية وفئوية، وللمؤسسة مصلحة فيها أكثر منا للمحافظة على تبييض وجهها أمام العالم. وهي ليست أكثر من عظمة تالفة رموها لنا لنتعارك عليها كما تتعارك الذئاب (ولا أريد أن أقول الكلاب) الجائعة على لا شيء. العيب ليس في المشتركة كفكرة ولكن العيب في أقطاب المشتركة من أحزاب متعبة تظن أنها بقرات مقدسة. المشتركة وجدت للمحافظة على بقاء المنتفعين أعضاءً في الكنيست وهي ليست الحلم ولا يمكن ان تكون الحلم فشعبنا أكبر من ذلك بكثير.


قرانا ومدننا فقدت حصانتها الاقتصادية وحصانتها الاجتماعية وتحولت إلى فنادق للنوم. فنادق غير آمنة وغير مغرية للعيش فيها. والفضل في ذلك يعود لتخلينا عن الأسس التي ذكرتها أعلاه. لا نحافظ على ما لدينا ولا نتعلم من الآخرين ولا نغار منهم ونتعارك على ما يرمونه لنا من أجندات تخدمهم أكثر مما تخدمنا.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com   

مقالات متعلقة