في خطابه المُتلفز، عقب الإجتماع الطارىء للقيادة الفلسطينية في رام الله، بعد أيام قليلة من هدم جرافات الإحتلال الإسرائيلي لمباني سكنية في بلدة صور باهر جنوب القدس، أعلن رئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس، عن وقف العمل بالإتفاقيات الموقعة مع دولة الإحتلال، وعن تشكيل لجنة متابعة لتنفيذ القرار، عملا بما صدر عن المجلس المركزي الفلسطيني.
من الأسباب التي أوردها السيد عباس لتبرير قراره :
- إصرار دولة الإحتلال على التنكر لكل الإتفاقيات الموقعة، وما يترتب عليها من إلتزامات.
- كون دولة الإحتلال، تقتل الفلسطينيين وتهدم وتصادر أراضيهم، وتغلق الطرقات وتقيم الحواجز والجدار العازل، وتُقرصن على الأموال الفلسطينية، ولإستمرار إعتداءات المستوطنين على ممتلكات الشعب الفلسطيني، والمقدسات الإسلامية والمسيحية.
- ممارسة التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية.
وأكد السيد عباس على أن " يده ممدودة للسلام الشامل والعادل والدائم"، ودعا إلى المصالحة، مع تحميله لحركة حماس المسؤولية لإستمرار الإنقسام.
لا تتحمل الحالة الفلسطينية النسخ الكربوني لبعض الخطاب الإعلامي العربي، الذي ينشط تطبيلا وتزمبرا، لكل خطاب يُلقيه رئيس الدولة، وتبدأ التحليلات عن " الخطاب التاريخي" و " القرارات التاريخية " و " الحكمة والحنكة السياسية " وغيرها من المُسميات، التي سأم منها المواطن العربي.
بكل صراحة ووضوح، آن الآوان للسيد محمود عباس أن يترك السفينة الفلسطينية لمصيرها، وأن يدع الشعب الفلسطيني ليجد له قيادة جديدة، تُكمل مشواره الكفاحي.
لا يوجد أي جديد في هذا الخطاب، الذي أعد للترجمة إلى لغات أجنبية، مثل باقي الخطابات، على أمل أن يصل إلى ما يُسمى " بالمجتمع الدولي"، ضمن نهج مستمر ما زال يعول الكثير على إستراتيجية المباحثات، بالرغم من الإعلان عن وقف العمل بالإتفاقيات، أي تجميدها مؤقتا وليس إلغائها، لأنه وبكل بساطة لا يملك القدرة ولا القوة على إلغائها وتحمل تبعات هذه الخطوة، بعد هذه المسيرة الطويلة من إهدار فرص توحيد الحركة الوطنية الفلسطينية ، على أساس مشوع وطني، يُعبر عن طموحات وقدرات وآمال الشعب الفلسطيني.
في نهاية أكتوبر / تشرين الأول عام 2018، قرر المجلس المركزي ، إنهاء إلتزامات منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، كافة إتفاقياتها مع سلطة الإحتلال، ومنذ سنوات طويلة والأصوات تطالب بوقف التنسيق الأمني " المقدس "مع دولة الإحتلال، وإنهاء حالة الإنقسام، وإعادة الإعتبار وهيكلة منظمة التحرير، ليأتي إعلان السيد عباس اليوم وكأنه يوحي " بإلتقاط اللحظة التاريخية المناسبة"، بعد إكتشاف من صاغ الخطاب، لممارسات وسياسات الإحتلال، المستمرة أصلا منذ قيام كيانه الغاصب لأرض فلسطين.
إذا كانت مبررات إلقرار هي ما تم ذكره في الخطاب، فماذا كانت مبررات عدم إتخاذه منذ إستشهاد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وما تعرض له كرمز للشعب الفلسطيني من حصار وقهر وإغتيال؟. تلك كانت اللحظة التاريخية الواقعية والمناسبة، والتي كانت ستجمع شتات الشعب الفلسطيني، وتنهض بقواه الحية موحدا، من أجل حالة تصدي ومقاومة. فما منع " مهندس اوسلو " حينها من من إتخاذ هكذا قرار؟، الإجابة يعرفها معظم شعبنا الفلسطيني.
وعندما كانت قوات الإحتلال تشن عدوانها الوحشي على قطاع غزة، وتقتل أطفاله وشيوخه ونسائه، وتُمعن في حصار شعبه، ألم تكن تلك لحظة " تاريخية " أخرى مناسبة لمثل هكذا قرار؟ ماذا كانت مبررات عدم إتخاذ قرار وطني حاسم حينها، يوحد الشعب في وجه الإحتلال، بعيدا عن التحريض ضد مقاومة الشعب في غزة ؟
عشرات الفرص تم هدرها، كان من الممكن أن تأتي هذه القرارات في ظلها، ليكون لها عنفوانها وقيمتها ومصداقيتها، لا سيما وأن التهديد بوقف التعاون، تحول إلى سيمفونية كلاسيكية، سمعها الشعب كثيرا، لم تؤدي لأية نتائج، ولم تغير شيئا من الواقع السياسي، ولم تقدم أي رصيد جديد لكفاح الحركة الوطنية الفلسطينية.
ما هي نقاط القوة والإرتكاز التي يستند عليها خطاب الرئيس محمود عباس، لتشكل حالة من "عدم القلق" على الأقل، عند الجانب الإسرائيلي، في ظل ما نشهده من متغيرات سياسية إقليمية ودولية؟. لذلك لا يتعدى القرار- بكل صراحة- شكلا ومضمونا، عن كونه زوبعة بسيطة في فنجان، لم يحقق أهدافه لا على الصعيد الشعبي الوطني الفلسطيني، ولا العربي، ولا الدولي.
قدر الشعب الفلسطيني، في تاريخ حركته الوطنية المعاصرة، أن يرى بعض قياداته، تُغفل أهمية تطوير إستراتيجية عملية مؤسساتية، للإستفادة من قدراته، كالقوة الحقيقية الوحيدة والرافعة الأساسية، لتحقيق أهدافه الوطنية في الحرية والإستقلال.
كان من الممكن، أن يتحول هذا القرار، إلى زلزال، لو كان الرئيس عباس، يتسلح بشعبه ووحدته الوطنية، ومشروعه المقاوم، وتراكمات من المواقف الصلبة، تكسبه مزيدا من المصداقية، بعيدا عن تضمين خطاب " الحرد السياسي" هذا، من تكرار الإتهامات لحركة المقاومة الإسلامية حماس، وتحميلها مسؤولية إستمرار الإنقسام، ولو كان الرئيس الشهيد الراحل ياسر عرفات، ما زال حيا، لترفع في مثل هذه المواقف عن هذه اللغة السياسية في التوقيت الخاطيء الذي يحتاج لثقافة خطاب سياسي مختلفة تماما.
من حق الشعب الفلسطيني، أن يوجه سؤالا جوهريا، للقيادة التي إجتمعت في رام الله، ماذا بعد؟ هل ستتم الإستجابة أخيرا لإستحقاقات إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من غرفة الإنعاش، وما هي إستراتيجيتكم، حتى لا نصل في مرحلة قادمة، لقرار، قبول إعادة العمل بالإتفاقيات الموقعة مع دولة الإحتلال، بسبب الواقعية السياسية، وإستجابة لمطالب وضغوطات ذاك الطرف وتلك الدولة؟. أم أن علينا أن ننتظر ليكون مكان الإجتماع الطارىء القادم في أحد المنافي القريبة أو البعيدة؟.
من أهم عوامل نجاح أي حركة تحرر وطني، هو أن يكون لديها مشروعها الكفاحي الذي يعبر عن مصالح شعبها الُعليا، والذي يتم صياغته ليعكس أهم مضامين هويته الوطنية والقومية والإنسانية، وثقافته الجامعة لمكوناته، ويستند على قوة الشعب وتوظيف إمكانياته. وأن تطور الحركة عناصر قوتها وإستقلالها على محتلف الأصعدة، وأن تنسج علاقاتها الخارجية على أساس التمسك بثوابتها، فتكون صدى لصوت شعبها، ويكون دورها " الوظيفي" هو أنها أداته الكفاحية، وليست أداة بعض الأطراف العربية والدولية في المُحصلة.
شكرا السيد الرئيس محمود عباس، على خطاب وقف العمل بالإتفاقيات الموقعة مع كيان الإحتلال، وبإنتظار قراركم بالرحيل !، أم ما زال هناك مبرر لوجودكم؟.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com