إسلام عكري في مقاله:
الرياضيات - رياضة للذهن والعقل، وإن كان المرء يملك عقلا فبإمكانه التمكّن من الرياضيات بمستوى اجتهاده
إن ما أرمي إليه كحلقةٍ مفقودةٍ هو ما يميزنا كذوات خَفَّاق، وقد اخترت الرياضيات كمثال قد ينطبق على مواضيع أخرى كوني في هذا المجال
ما بين البناء والترميم بون شاسع، هذا إذا كان الترميم في طالبٍ عبثت به الأيادي دهورًا، لا زلتُ على رأيي المخالف للسائد والعام أنَّ الرياضيات وراثةٌ أو موهبةٌ تولدُ مع الطالب وتَكمنُ في جيناته.
لنبدأ حديثنا عن ماهية الرياضيات وكُنهها، فكما معلوم للكثير، الرياضيات لغة العلوم، ولا سبيل لشرح كثيرٍ من ظواهر علمية ومبرهنات إلا بصيغ ومقالات تكمن الرياضيات في جوهرها وخلف أسطرها، هذا إن لم تكن فوقها أيضا، أضف على ذلك أنّها - الرياضيات - رياضة للذهن والعقل، وإن كان المرء يملك عقلا فبإمكانه التمكّن من الرياضيات بمستوى اجتهاده. وإن كان كل ذي عقل يتحدّث لغة ما - هي لغة من حوله على الأغلب - فإنّ بإمكانه التحدّث بلغة أخرى، لا سيما الرياضيات. إذن لماذا توجد شريحة من الطلاب هي بالبعد عن الرياضيات مقدار تخوفها منها، وأين الحلقة المفقودة في ذلك؟ أهي المعلّم؟ المدرسة؟ ولماذا لا تكون الأهل والأوصياء، أو المنهاج وأساليب التعليم، أم هي جميعهم باختلاف العيّنات المطروحة؟
ليس الهدف من وراء هذه الأسطر الإشارة بإصبع الاتّهام إلى جهة ما، ولا هو الشدّ على يد جهة بعينها، كلٌّ بعمله أدرى، لكنّي سأحاول باقتضاب لا يسلب الموضوع حقه أن أجيب في هذه المقالة القصيرة على أسئلة قد تدور بذهن من يهمه الأمر، من طالبٍ، معلمٍ، أو ولي أمر، وأن أضع البنان على الحلقة المفقودة، والتي هي برأيي أساس ابتعاد الطالب ونفوره من موضوع الرياضيات، ولتكن الملكات العقلية والتفوق الذهني أول ما سأطرحه وأتناوله.
نعم، إن لصاحب الملكات الذهنية أفضلية في جميع مجالات الحياة التي تتطلّب حضور العقل، هذا على وجه العموم، أما على صعيد الرياضيات فإنَّ الملكات الذهنية والقدرات العقلية تلعب دَورًا هامًّا في عملية التلقّي بلا أدنى شك، لكنها ليست العامل الوحيد، كما أنّ ضروريتها تختلف باختلاف المستوى الرياضي المتداول وامتداد أو تقلّص الوقت المتاح لبلوغ غاية منشودة قد يحدّدها منهاج تعليم أو موعد امتحان ما، أو طموح وشغف تفاقم في الصدر ربما. الملكات العقلية والقدرات الذهنية من شأنها دفع عجلة التلقي والاستيعاب لتدور بوتيرة أسرع، وقد تساعد هذه الملكات عند الطالب المعلمَ وتثير به حماسةً ما، لكنّها أيضا قد تعييه وتنقلب إلى عقبة أمام المعلّم، كيف ذلك؟
لن أتحدّث عن حالات بعينها وسأُبقي النصيب الأكبر للفكرة، ولك عزيزي القارئ أن تُلقي ظلال ما أخطُّ هنا على حالات عايشتَها وتتخيّلها موضع الحديث، فلا تخلو مدارسنا وأماكن التعليم من معلمين لا يحسنون التعامل مع طلاب بمستوى ذكاء عالٍ. إذن قد تكون تلك الملكات نقمة، على خلاف دورها، وهذا ما تحدّده رواسب كيمياء العلاقة بين المعلم والطالب، وربما أمورٌ أخرى سبقت تلك العلاقة كان لها الدور البالغ في تحديدها مسبقا قبل انجلاء فجرها، كأن تقول بلا وجلٍ منهاج التعليم وأساليبه، أو هو كم الطلاب في كل صفٍّ واختلاف ملكاتهم وميولهم أمام قالبٍ واحدٍ تحثّ المؤسسة على أن يكون كلُّ طالبٍ مع بلوغه خَطَّ النهايةِ على شاكلته، قالب يفتقر إلى الإبداع في مكنونه ويعمل على قتله في الطالب. أو قد تضيف على ذلك عملية تأهيل المعلم، وعوامل أخرى كثيرة.
ماذا عن الطلاب بمستوى استقبال واستيعاب عادي أو ما دون ذلك، لماذا نجد منهم من لا تروقه الرياضيات؟ لماذا نجدهم ينجحون في مواضيع أو حرفٍ أخرى؟ والمضحك إذا كانت تلك الحِرف تستوجب الرياضيات في مضامينها، وكيف لطالب أن ينجح في مجال مثل هذا وفي وقت سابق أو ذات الوقت يعاني أو عانى من الرياضيات؟ إن شريحة الطلاب تلك، وهي السواد الأعظم بين جمهور الطلاب، لا يحدد للفرد منها تواصُلَه مع الموضوع أو انقطاعَه ونفورَه منه مستوى الذكاء والملكات العقلية، وإنّما هي مسيرةُ تعليمه واحتكاكُه بالعوامل المباشرة، وعلى رأسها المعلّم. لذلك، إذا رأيت طالبا بمستوى ذكاء عادي أو دونه ولا يتناغم وموضوع الرياضيات، فاعلم أن الكسر في السنفونية قد أحدثه عاملٌ لا يَمُتُّ بِصلةٍ إلى جيناته أو ماهية الرياضيات. أما إذا كان هذا الطالب المتنافر من الرياضيات بمستوى ذكاء مرتفع، فإن إحدى العوامل (على الأقل) التي رافقته خلال تعليمه كانت بمثابة الكارثة.
عامل آخر له من الضرورة مكان رحب في عالم التمكن أو التناغم من ومع الرياضيات، هو التذويت. قد لا يكون من الصعب على الكثير من طلابنا أن يفهموا مسألةً حسابية ما، وقد تجد الكثير ممن يخفق في الامتحان رغم أنه واثق من قدراته وفهمه للمادة التي امتُحِنَ بها، وهنا أشير إلى طلاب الجامعات والكليات على وجه الخصوص، فقد تخلو المدارس من هذه الشريحة بمجرد إخفاق الطالب بضع مرات في مادة الرياضيات، ليجد لسان حاله جالدًا ذاته ولاعنًا الأعداد وكل ذات صلةٍ في قرارة نفسه. أرى مسألة التذويت أشبه بآثار أقدامٍ خلّفها ماشٍ على رمال الشاطئ يراها القريبُ، أما الناظر إليها من بعيد فقد لا يراها، ولِتَهَبَ للبعيد أن يراها عُد عليها بضع مرات. وهنا تدخل بقوةٍ عناصرُ أخرى، تلعب دورًا هامًّا في إرادة الطالب وإقباله على ممارسة العودة والتزامه الدراسة، وكذلك قيامه بالمجهود الفردي الملقى على عاتقه. أذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض هذه العناصر: الاستنتاجات السريعة ووجود أو غياب المرشد أو الرقيب. بِغَضِّ النظر عن أن العوامل المؤثرة في هذه العناصر تعود إلى الأشخاص العاملين على الطالب في الجامعة أو المدرسة، أو البيت وأماكن تواجده، فإن القرار بالسماح لتلك العناصر التأثير على ما يدور في خلد الطالب ووجدانه يعود إلى الطالب نفسه في مرحلة ما من عمره. لا تُقفَلُ الدائرةُ التي نتناولها إلا بتذويت ما يتلقاه الطالب من معلّمه، سواء بالدراسة أو الرجوع على ما تلقّى، أو بحَلِّ وظائفه واتباع إرشادات المعلّم، وإلا كيف سيستخرج الحلول ومُتطلّبات النجاح في الامتحان إذا خلا باطنه من هذا وذلك. سأكتفي بالإرادة والتذويت كعاملين أساسيين في تقليص الزمن المفترض لبلوغ الغاية المنشودة. وسأقف على وصفهما بجناحي طائر لم يكن له أن يحلّق بواحد، وسأنتقل إلى العامل الأهم والمحفّز الضروري لكل ما أسلفت، ألا وهو الشعور.
نجاعة ما أنت فيه تقف مباشرة خلف حبك له، وعوامل الحب مشبوكة شائكة، قد تشوبها حصاة وقد لا تحرّكها الرواسي، لكن فيما نحن بصدده بإمكاني وصف الصِّلات المهمة بمثلثٍ رؤوسه المعلم والطالب والأهل، بإمكانك استبدال الأهل بالمجتمع المحيط بالطالب على صعيد محلي، وإن كنتُ سأتجاهل بعض الشيء هذه الصلة وهذا الضلع، وسأركز على ضلع المعلم والطالب، فتجاهلي هذا لا يقلل من أهميته وحيويته. لا يكون التفاني ولا يبلغ المعلم منتهاه وتلك الدرجة دون محبته وخفقان فؤاده، ولا ينجح الطالب بالنهوض من عثراته مع نفورٍ يحمله بصدره، ولا أن يدرس وبين أضلاعه حلم مكسور، ولا أتكلم هنا عن تجانسٍ ضروري لينجح الطالب، ولكنّي أردتُ هالات الوداد لبنائه أو ترميمه. لا مكان هنا لمقدار أجرة المعلم وظروف عمله، لا مكان لخلفية الطالب وعلى أي أساس يقف، ولا مساحة لغير هذه المحبة، مثلما لا دور لكثافة الغيم عند الشروق.
إن ما أرمي إليه كحلقةٍ مفقودةٍ هو ما يميزنا كذوات خَفَّاق، وقد اخترت الرياضيات كمثال قد ينطبق على مواضيع أخرى كوني في هذا المجال، وكون هذا المجال يشكل معضلة أمام الكثير، وكَون عملية التذويت والإرادة هما بندوله ودورانه. إذا أردت معاينة معضلة ما في شريحة من المجتمع فنجاعة ما تفعل - علاوة على الفكرة التي تحملها - تتناسب طرديًّا مع مدى بلوغ معاينتك الفرد، فكل طالب حالة. وقد لا يستحيل هذا، لكنه حتما سيستحيل إذا خملت كيمياء القلوب. عزيزي المعلم، إذا لم تبلغ هذه المنزلة بعد، وليس بلوغها بالأمر السهل، أو تحت طائل من أراد، فجِدِ الأسباب وارتقِ. وما بين عبث الأيادي وملاطفاتها، وبين معلمٍ وولي أمرٍ مُحبٍّ متفانٍ يهبُ لك جَنَانَه، وآخرين هم بالكارثة وصفوا، تبقى إرادتك عزيزي الطالب صاحبة الكلمة الأخيرة فيما أنت فيه، فلا مُعين إن قطع بك اليأسُ موضعَ الإمكان، ولا معجزات سوى بالخيال، كما تبقى أنت الطرف الأهم والأثمن في أي معادلة أو متباينة تشتملك وتحويك، يكفي أنك المستقبل وفيك الأمل معقود، وإن كنت كذلك، فاجمع كراريسك وخذ قرطاسيتك واسع إلى حيث مُناك، وقاتل بكامل الوداد.
* إسلام عكري - محاضر في جامعة حيفا في قسم الرياضيات، ويقدّم رسالة دكتوراه في الرياضيات وعلم الحاسوب في جامعة حيفا.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com