كتبَ الشاعرُ الإيطالي فرانشيسكو بيتراركا (Francesco Petrarca 1304-1374) والذي يعتبرُ من روادِ عصر النهضةِ "الرينسانس" في إيطاليا: "أريد أنْ يتحققَ لي الموتُ عندما أكتب أو أصلي". ذلكَ من تداعيات الوباءِ المروع الذي راحتْ ضَحيته أعدادٌ هائلة. كثيراً ما رددَ المفكرون أنّ طاعون عام 1348 قد ألهَمَ العديدَ من الأوروبيين، ألهمَهم "الفن الوبائي" لإنتاج اللوحات والمنحوتات والأعمالِ الفنيةِ والأدبية، لأنهم اعتقدوا أنّه من المرجح أنْ ينقل "الفن الوبائي" الأمل والتفاؤل أكثر من اليأس. فالموت الأسود (Black Death)، كان واحداً من أكثر الأوبئة ضراوة في التاريخ الإنساني. كيف لا، ولم يتمكن الانسانُ من الدخول لعالم الميكرو-بيولوجيا الا بالقرن التاسع عشر.
لم تكنْ هناكَ تأويلاتٌ علمية لظاهرة الطاعون في العصور الوسطى، فأصابتِ الناسَ بالذهولِ من حيثُ الثيولوجيا، وفسرتهُ الجماهيرُ بأنّه غضبُ الرب بسبب فسادِ الناس. ومنهم من فسرهُ أنّهُ نتيجة وجودِ مزيج معين من النجوم، في حين اعتقد آخرونَ أنّه إشارة لنهايةِ العالم. لكنَ الكنيسة دحضتْ هذين التوجهين الأخيرين، واعتبرتِ الوباءَ مُرتبطاً بالسببيةِ الأخلاقية. الطرق الروحية الرئيسية التي اختارتها الكنيسة واختارَها المؤمنون للتعاملِ مع الطاعون كانتِ الصلواتُ والنذورُ. من بين العديدِ من الرموز التي صلى بها الأوروبيون لطلب الرحمةِ كانتْ مريمُ العذراء والدة اليسوع، والتي اعتبروها سلطانة السماءِ والأرضِ. بدأتِ اللوحاتُ الفنية والرسوماتُ تتجلى بالكنائس من الفنانين والمهرة.
على سبيلِ المثالِ، تم تكليفُ برناردو دادي (Bernardo Daddi) برسم مريمَ العذراء والطفل يسوع معَ الملائكةِ داخلَ كنيسةِ (Orsanmichele) في فلورنسا بشمال ايطاليا. كانَ المؤمنون يأملون أنْ تتمكنَ مريمُ من مناشدة ابنها وطلب الرحمة للطاعون. كانتْ مريمُ تُعرف باسم حامية المؤمنين، وقد ظهرت في العديد من الأعمالِ الفنيةِ كمحاميةٍ للمؤمنين تحت عباءتها. قديسٌ آخر اختارهُ المؤمنون للصلاة هو القديس سيباستيان (Saint Sebastian) من القرن الثالث، والذي أصبح قديسًا عن طريق الشفاء من جروح الأسهم التي أطلقت عليه، وأصبح رمزًا للخلاص من المرض. تم النظرُ للأسهم على أنّها سهام من مصادرَ سماويةٍ تمثلُ الطاعون والموت، وتم اعتبارُ القديس سيباستيان ذاكَ الملجأ المُرتجى للحماية من تلك "السهام الإلهية". في عام 1367، تم تصميمُ لوحاتٍ فنيةٍ لكاتدرائية بادوفا الإيطالية، والتي تعبرُ عن رمزيةِ القديس سيباستيان، صَممها فنانُ البندقيةِ نيكوليتو سيميتكولو (Nicoletto Semitecolo) تتمثلُ في أربعةِ مشاهدَ من حياةِ القديس سيباستيان "بالأسطورة الذهبية" مُرتبة تحتَ صُور الثالوثِ المقدس.
الإشارةُ المفاهيمية للطاعونِ الأسود كانت متنوعة في الأدب اليهودي في العصور الوسطى بشكل عام. الحاخام اليهودي بالأندلس نسيم بن روبين جبروندي المعروف (הר"ן) المُتوفى بين السنوات (1375-1380) كانَ من الناجين من وباءِ عام 1348، ألقى خطبة دينية لمريديهِ حولَ الطاعون. ورغم كون الحاخام اليهودي طبيبا الا أنّه لم يتحدث عن الوباء من ناحية طبية، انّما تحدثَ من كونه زعيماً روحياً للطائفة اليهودية بمدينة برشلونة بذلك الوقت. فباعتقاده أن طاعون 1348 كان أمرا لقوى فوق-طبيعية، ربانية، أشار اليها بمصطلح "אצבע א-להים". ويعتقد الحاخام أن الله سلط الطاعون بغرض العقاب والتذكير بالاستعداد النفسي لدحض مغريات الدنيا والانابة والتوبة الى الله. فباعتقاده أن العقاب كان موجها لكافة الناس وليس للضحايا بشكل خاص. هذا ويتبادر للأذهان من استعمال الحاخام (הר"ן) لعبارة "מוסר ה" א-להיכם" في وصف الطاعون، ربما لمقارنة جيل الناجين في عصره، بجيل خروج مصر والذي رأى وشاهد معجزات الله.
ابن خاتمة (1310-1369) يتنبأ علمَ الميكرو- بيولوجيا
في ظل أزمةِ طاعون 1348، برز نجمُ أحد الأطباء المرموقين في القرن الرابع عشر، أبو جعفر أحمد بن خاتمة، حيث وُلد في بلدة مرية بالأندلس، وعاشَ في غرناطةَ وعُرفَ باسم الشهرة ابن خاتمة الأندلسي. حيثُ جادلَ ابنُ خاتمة ضد الاعتقادِ السائدِ والشائع آنذاك، وأوضحَ أنّ العدوى ليستْ بالضرورةِ غَضبُ الله، انما لها مُسبباتٌ أخرى. يبدو أنّ ذلكَ تطلبَ شجاعة لتحدي المعتقدات الدينيةِ الشعبيةِ السائدةِ في كلٍّ من أوروبا وآسيا والتي ربطتْ وحسرتْ العدوى بغضبِ الله، دونَ الأخذِ بالأسباب الوقائية. لذلك، حددَ ابنُ خاتمةَ وابتكرَ إجراءاتٍ طبية مكتوبة والتي كانتْ جديدة في ذلكَ الوقت، مثلَ تطهير المناطق المصابةِ بالجسد، والتعقيم، والحجر الصحي والنظافة.
شـهدَ ابنُ خاتمة ظهور وباء الطاعون الذي اجتاحَ الصينَ والقارة الاسيوية، متجهًا إلى الغرب نحو سواحل حوض البحر المتوسط برمتها، الأوروبية والافريقية، حتى وصل الأندلس. كان ابن خاتمة شاعراً وطبيباً ذاع صيتُه عبر صفحات المؤرخين الغربيين الذين تناولوا الحديثَ عن طاعون القرن الرابع عشر والذي حصدَ الأرواحَ بالملايين، ربما اجتاز 75 مليوناً من البشر وأكثر. وقد كان ابن خاتمة يُسعفُ المرضى والمصابين، ويُراقبُ بكل اهتمامٍ وعنايةٍ كيفيَّةَ انتشارهِ وانتقالهِ بين كلِّ شرائح المجتمع، ويُدوّن مشاهداته وملاحظاته ممَّا دفعهُ لدراسة كيفيَّة انتشار هذا الوباء وأسبابِ تفشيه. وقد اعتمدَ على هذه المشاهدات والدراسة لبلورة نظريةٍ جديدة أودعها في مخطوطةٍ طبيةٍ ذات قيمةٍ ساميةٍ أسماها "تحصيلُ غرضِ القاصدِ في تفصيلِ المرضِ الوافد".
وتُعدُّ هذه المخطوطة من أهمِّ مؤلَّفاته، صنَّفها سنة (1348م)، إثر تفشي الطاعون بالأندلس، ووضعَ لذلكَ الوباءِ تعريفًا علميًّا لحقيقة: "إنَّه حمَّى خبيثة دائمة عن سوء مزاجٍ قلبيٍ بسبب تغييرِ الهواءِ عن حالته الطبيعية إلى الحرارة والرطوبة". كان ابن خاتمة أول من لاحظ أن البشرية محاطة بأجسام دقيقة تدخل جسم الإنسان، أي أنه تنبأ علم المكروبات والجراثيم. كان ابن خاتمة مفكراً عظيماً، وقامة من نوع آخر مثلما أشاد به الباحثون الغربيون. خلال فترة معالجته المرضى، شاهد ويلات الطاعون الشديدة. قام بالتشديد على التوعية الصحية والإجراءات الوقائية، منها شدد على عدم استعمال ملابس واغراض المتوفى بالمرض. لأنها، باعتقاده عاملا أساسيا في نقل العدوى. وأسهب في مخطوطته قائلا: "أنَّ انتقال الطاعون يكون في العــدوى... وجدتُ بعد طول معاناة أنَّ المرء إذا ما لامسَ مريضًا أصابه الداء وظهرت عليه علاماته..." ثم يستطرد ويقول: "... واعلم أنَّ سببهُ القريبَ غالبًا هو تغيير الهواءِ المحيط بالإنسان الذي فيه تنفسه، وهذا التغيير يكونُ في الكيفِ ويكونُ في الجوهر". وهنا يتحدث ابن خاتمة الطبيب الملهم عن "الأبخرة المصابة بالكائنات الدقيقة" التي تغزو الجسمَ وتسببُ المرضَ، وتنتقل من واحدٍ إلى آخر. وهكذا، أكد على ضرورة عزل الوباء. وهذه التعليمات الوقائية بمثابة مقدمة للنظريات الحديثة لعلم الأوبئة وعلم الأحياء الدقيقة والميكرو- بيولوجيا لاحقاً.
مخطوطة ابن خاتمة منظومة ومبوّبة على عشر مسائل متعددة، وهي: حقيقة وباءِ الطاعونِ والمعنى اللغوي والطبي، أسباب الوباء القريبة والبعيدة، ما باله خصَّ قومًا دون آخرين على قرب الجوار. أروع وأهم ما عالجه الكتاب هو كيفية التحفُّظ والاحتراز منه، وطرق علاجه إذا نزل، وما جاء عن الشرع ُفيه. حيث تطرقَ ابن خاتمة ما معنى الحديث النبوي عن الطاعون: "إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها"، ثم تطرق الى الحديث النبوي: "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ"، وأخيرًا بيّن كيفية الجمع بين الحديثين النبويين، وأن المخالطة تكون سبباً لنقل المرض من انسان لآخر، طبعا بإذن الله. من خلالِ استكشافِ ابن خاتمة، يؤكد الكثير من الباحثين الأوروبيين أن العروبةَ الغربيةَ هي التي زودت العالم بتأكيد أكثر واقعية لعقيدة الطابع المعدي للمرض.
ابنُ خاتمة كانَ سابقاً ومتقدماً على الاكتشافات العلمية في القرنينِ التاسع عشر والعشرين فيما يتعلق بنظرية العدوى والحاجة إلى العزلة والحجر الصحي، وما إلى ذلك. فقد تحدّثَ عن آليات الحماية من المرض وسبل الوقاية من العدوى، علاوةً على تدوين المبادئ التوجيهية وإرشادات الرعاية التلطيفية للمرضى، بما في ذلكَ وصفات القيم الغذائيةِ والدوائية. يمكن القول إن ابن خاتمة اقتربَ بدهائه من أنواع الأوبئة المصنفة في العلم الحديث مثل الطاعون الدبلي، الطاعون الرئوي وطاعون إنتان الدم. وبفضل كل ما أوردته، باعتقادي أن ابن خاتمة وبجدارة يُعتبر رائدُ علم الميكرو- بيولوجيا الحديث.
ومن الموادِ التي وردتْ في مخطوطةِ ابن خاتمة لاستخراج الوصفات العلاجية كانت: عصيرُ التفاح، والليمون، والبقدونس، والقزحية، الموز، وزيتُ الزيتون، والعسلُ، البيضُ، والتينُ، ودقيقُ الشعير وغيرها. كل هذه الأمور تعتبر بسيطة ومعروفة ومتفق عليها أنها صحي، ومتوفرة في ذاك الزمان وهذا الزمان. لكن الوعي النفسي والتقيد بالتعليمات الصحية وتنفيذها هي الأمر الحاسم في موضوع مواجهة الازمات الوبائية.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com