الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 11:02

عودة ديك- بقلم: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر
نُشر: 03/07/20 15:59,  حُتلن: 07:39

كان ديكنا قد رافقنا إبّان نكبة 48، من قريتنا سيرين، إلى منفانا القسري في الناصرة، رافضا مفارقتنا رغم ما تعرض له من إغراءات قامت بها دجاجات مغريات في كل بلدة وقرية حللنا فيها، ومفضلًا رفقتنا وعيشنا الكفاف، ما دفع امي لأن تقول.. لازم نحافظ عليه.. مثل ما حافظ علينا، واتّخذت قرارًا في الابقاء عليه، مؤكّدة على ان صياحه في آخر الليل وأول الصباح، انما يحمل اليها فألًا حسنًا بإمكانية العودة إلى قريتنا لاستئناف العيش في حضنها وبين يديها. اضف إلى هذا أن الوفاء يفترض ان يُقابَل بالوفاء، كما اننا ربيناه كل شبر بنذر، ليضحي يومًا اثر يوم غاليًا وعزيزًا، ولا يمكن التنازل عنه.

أما أنا فقد كنت اشد المعجبين بديكنا اولًا، وباهتمام امي به ثانيًا، وبمعزّة بقية أبناء اسرتي له ثالثًا. وكنت كلّما رأيته يزهو بنفسه ويمشي مشية ملك يتأهب للعودة إلى عرشه المفقود، اشعر ببهجة وبرغبة في احتضانه وحتى تقبيله، هل كان ذلك بسبب ملازمته المحبة لنا؟ ربما.. هل كان بسبب انه حمل حلمًا يشبه حلمنا ليرافقنا كل تلك المسافات الشواسع؟ ربما.


منذ بدايات تفتّحي على الحياة، لاحظت ان ديكنا لا يتنازل عن عاداتٍ يبدو انها رافقته من قريتنا سيرين، ولازمته ملازمة ثرى قريته لقدميه، فهو عادة ما يأوي إلى قنه في ساعة مبكرة من المساء، ليستسلم بعدها إلى نوم عميق، ثم يفتح عينيه في آخر الليل واول بزوغ فجر ليطلق صياحه المبارك، أما في الصباح فانه يتجوّل في المنطقة المحيطة ببيتنا المستأجر، يلتقط الحبّ، وبعد ان يشبع، يتوجّه إلى حفرة الماء ليشرب منها. في ساعات ما بعد الظهر كان يعتلي مرتفعًا ترابيًا ويرسل نظره إلى البعيد.. البعيد، كأنما هو ينتظر عودة اهل ورفاق له اضطر لمفارقتهم مرغمًا.


على هذا النحو مضت الايام والليالي، انتظارًا وراء انتظار وصياحًا يعقبه صياح، لا هو يملّ من اعماله هذه ولا انا املّ من متابعة ومحاولة فهم ما يدور بخلده، واعترف انني كنت رغم حداثة سني، احاول ان اتتبع حركاته، وسكناته ايضًا، فلماذا هو يرتقي ذلكم المرتفع الترابي المحاذي لبيتنا؟ بعد ظهيرة كل يوم؟ ولماذا يرسل نظراته إلى البعيد.. البعيد؟ بل لماذا هو يصرُّ على طقوسه اليومية هذه وكأنما هي مهمة يومية لا بد له من القيام بها وادائها؟ وقد حاولت اكثر من مرة ان احمله على مغادرة مرتفعه ذاك ودفعه دفعًا للإيواء إلى قنه مبكرًا، إلا انه رفض بقوة، حتى انه كان كثيرًا ما ينظر إليّ كلّما اقتربت منه بنوع من الريبة، فيزوغ مني.
بقي أمر ديكنا، البلدي الاصيل، يجري على هذا النحو، من الصياح إلى البحث عن الطعام والشراب، فارتقاء ذاك المرتفع الترابي، ومراقبتي اليومية له، بقي هذا كله سرًّا يحتاج إلى كشف، الى ان وقعت حرب 67، فانفرجت اساريره، وكاد يطير في الفضاءـ بل ان امي قالت لنا ونحن نتابع اخبار الحرب.. وهي في ذروتها، انها شاهدته وهو يحلّق في قنه كأنما هو يحاول الطيران والذهاب إلى هناك، للمشاركة في تحقيق النصر.

صدق بعضُنا ما قالته أمي، وكنت من هذا البعض، فيما لم يصدقه بعضُنا الآخر، غير ان ما حصل بعد انتهاء الحرب بالضربات الاسرائيلية الاستباقية وهزيمتها الجيوش العربية قبل أن تخوض الحرب، اكّد ما قالته امي، كما اكد لنا، انا على الاقل، ان ديكنا انما كان واعيًا ويشعر بمثل ما نشعر به نحن اهله واصحابه، فقد بدت علامات الحزن بعد انتهاء الحرب واضحة جلية في أعماق عينيه، بل انني اتذكر انه كفّ عن عادته اليومية، وغزت عينيه حالة من الشرود والحزن الذي ما لبث ان تحول إلى نوع من الكآبة، وقد تجلّت هذه في عكوفه على قنه وانتظار الموت في عتمة حالكة.

حاولنا اخراج ديكنا مما وجد نفسه فيه من أحزان ومعانيات، إلا اننا عبثًا فعلنا، وبقيت اموره تجري على هذا النحو إلى ان دبّت الحركة في بيتنا، وجاء أبي لينقل الينا خبر تقديمه طلب تصريح يمكّن اقاربَ لنا.. من مدينة اربد الاردنية، من زيارتنا في الناصرة، يومها شعرت ان بصيصَ املٍ اطل من بعيد، وكأنما ديكنا شمّ ريحة الغايبين، فتحرّكت نسغ الحياة في عروقه مجدّدًا. اكد ما ذهبت إليه أن ديكنا عاد إلى عاداته اليومية المذكورة، وأصرّ على ارتقاء مرتفعه الترابي القريب من بيتنا.

في يوم الزيارة المُحدّد، اطلّت من اول الحارة سيارةٌ تقلُّ اهلنا ألاربديين، وما ان رآهم ديكُنا، حتى كاد يطير اليهم، وافترشت وجهه ابتسامةٌ كادت تكون بحجم العالم، فراح يتقافز حولهم، كأنما هو يرحّب بهم.. في بلادهم، بل انه راح يتمعّن في وجوههم حارصًا على التقاء العين بالعين، الامر الذي لفت انظارهم فسألونا عمّا يحدث، فتطوّعت امي برواية حكايته مكتفية بما حملته من ايحاءات ومعان، الامر الذي دفعهم لأن يقترحوا علينا ان يقوم ديكُنا بمرافقتنا جميعًا لزيارة قريتنا سيرين. وافق اهلي على اقتراحهم هذا، وانطلقت سيارة التاكسي المستأجرة، تقلّ الجميع بمن فيهم ديكُنا إلى قريتنا، واذكر انني كنت كلّما انطلقت السيارة بنا اكثر، ولمعت عيون راكبيها مستهلة ثرى قريتها، استرقتُ نظرةً إلى عيني ديكنا فرأيتهما لا تقلّأن التماعًا عن عيني كل من راكبي التاكسي.

عندّما توقفت السيارةُ بنا على اطلال قريتنا، توزّع الأهلُ في اتجاهات مختلفة، كل منهم يعانق حُلمَه، كأنما هو يعود إليه مشتاقًا دنفًا، اما ديكنا، فقد فرّ بعيدًا عنا، لنتابعه بأنظارنا.. ولنراه يعتلي مرتفعًا ترابيًا يُشبه ذاك القريب من بيتنا في الناصرة، وليواصل الانتظار.
 

مقالات متعلقة